تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

بيوت الآخرين

تعرّفت إلى هدى في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت. رأيت ساقيها أولاً ثم وجهها. طلبتْ مني أن "أنتبه إلى أشيائها" ريثما تعود. المكتبة هادئة صيفاً، يزورها مَن يريد أن يقرأ أو ينجز بحثاً غير مستعجل، فالامتحانات انتهت والفصل الجديد لم يبدأ بعد.

"طبعاً" أجبت هدى، ولم أحاول أن أقول المزيد. لكنها غيّرت مزاجي وأثرت فيّ. كان يمكن أن تطلب من الفتاة الجالسة إلى جانبها أن تنفذ مهمة حراسة كومبيوترها المحمول، لكنها اختارتني أنا. وأنا الأستاذ المتدرب على فنون الطلاب جميعها، لست واثقاً بنفسي، وما زلت أخجل من تلميذة في العشرين.

غابت ثم عادت. ابتسمتْ بأدب. ولم أسمع صوتها إلا حين قررت التوقف عن القراءة، وقبل أن تنصرف سألتني بصوت خفيض كي لا تزعج الآخرين: ما الذي تفعله هنا؟ ماذا تقرأ؟ وقبل أن أجيبها قالت: أراك غداً. أتى غد وعدت إلى المكتبة في الجامعة الأميركية في بيروت. بحثت عن هدى، ووجدتها. وهي قالت لي ما إن رأتني: وجدتك. وانطلقنا من مقهى إلى آخر، من رصيف إلى آخر في يوم غير عادي سلّمت فيه نفسي إلى مغامرة.

قلت لها: تمنيت لو أنني أنسى.

- ما الذي تريد أن تنساه؟

- لا أعرف، كل شيء ربما، أحب أن أبدأ من جديد.

 يسألونني لمَ أتعبُ نفسي بالقلق والتفكير في الغد بالرغم من أنني لست مسؤولاً عن أطفال وزوجة ووظيفة ثابتة. لكنني ولدت هكذا، أحب أن أقلق. أتمنى الآن لو أنني شخص آخر. أختار أن أكون هذه الصبية أو تلك، أو هذا الشاب الأشقر الجالس مع الصبية التي تحمل مسماعاً فوق أذنها. مَن أختار من بين الجالسين في المكتبة، أصحاب الكتب هؤلاء؟

أصبحت أتنقّل بين بيروت وبيتنا القديم في الجنوب. نفيتُ نفسي إلى نفسي، ثم إلى هدى. قطفتُها كأنني أقطف حلماً. "تعالي أنقذيني من امرأة أجنبية تنبذني"، قلت لها. ولم تغضب هدى حين أخبرتها أنني تركت حبيبتي في نيويورك لأنها لم تعد تحبني. لم يضايقها الموضوع. واعية اكتشفتُها أم أنها طفلة في الثالثة والعشرين؟ أين كنتُ أنا في الثالثة والعشرين؟ كنت في بيت خفت منه لأنه ليس بيتي. لم يكن لي بيت يوماً. كل البيوت التي استأجرتها في نيويورك كانت بيوت الآخرين، بيوت سكانها القدامى، والناس في الشوارع وفي السوبرماركت والمترو، وفي كل بقعة من الأرض التي لا تتكلّم لغتي، لكنني أتكلّم لغتها.

أنا الآن غريب في لبنان، وأصرّ على أن أكون غريباً فيه. أعيش مع مشاهدي الأخيرة لوطن من قبل أن أتركه لم يكن وطني، وأقارنها بما أراه الآن. لا أعرف ما الذي تغيّر ومَن تغيّر، أنا أم الشوارع أم البنايات أم العالم أم أنني ببساطة لفرط رغبتي في النسيان، نسيتُ.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077