تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

كلام الموسيقى

مضى أسبوع على استسلامي لواجبات الأمومة والعمل. في العادة أكافح وأحارب كي أمرّر واجبات الرضا عن نفسي بين واجبات العمل والبيت. لا أسامح نفسي إذا لم أحارب لأقرأ ما أختار قراءته ولأكتب أيضاً. لكنني أحياناً أستسلم حين أفكر في أنني أحارب كي أفرض حربي أنا، أحارب كي تكون الحرب اليومية حربي لا حرب الآخرين من حولي. لا أشكو الآن، ولا أقول إنني لست سعيدة بمسؤوليات المرأة «شبه الحديدية» التي تريد أن تنجز كل شيء بين يوميْ الإثنين والأحد. يجب ألا تنسى هذه المرأة أيضاً ألا تهمل تقليم أظفارها وتصفيف شعرها، وألا تقصّر في واجبات اجتماعية أساسية أوسع من نطاق عائلتها الصغيرة، من تعزية وتهنئة وزيارة مريض.

منذ أسبوع لم أرضَ عن نفسي. منذ أسبوع أمتلئ بالفراغ. أفكر في الحروب اليومية والأسبوعية التي أخوضها وتنهك جسمي وعقلي وضميري خلال فسحة الحرية الصباحية قبل وصولي إلى العمل. ففي الطريق بين البيت ومركز عملي أترك أحلامي تطير من نافذة السيارة. أتأمل البحر والبنايات القديمة الجميلة التي تودّعني وأودّعها قبل أن تُسحق وتُفتت. أفكر في ما لم أنجزه وأبتسم. يكون ردّ الفعل الأولي ابتسامة دوماً ثم تكرّ الشكاوى وتنطلق المحاكمة والمحاسبة. أحاسب نفسي وأحاكمها.

اقتحمتُ السيارةَ صباحاً. ضعت في المشاهد المتكررة وفي صمتي الصباحي المريح. هي الطرق نفسها، عرفتها منذ وعيتُ على حياتي البيروتية. هنا ولدتُ وهنا أنجبت ولديّ، هنا درستُ، وهنا دخلت صالة سينما للمرة الأولى، هنا جرّبت أن أدخن لأقلّد من استمعتُ، خلال ما يفترض أنها أعوام نضجي، إلى «نظرياتهم الفلسفية والسياسية والعاطفية». هنا كبرت وهنا أكبر.

سكت الصوت المتسّلل من الراديو إلى عالمي الصباحي. ارتحتُ. لكن صاحبة الصوت عادت إلى قراءة ما كُتب لها عن الآلة «المنحّفة» التي تحقق الأحلام وتصقل الخصور والأفخاذ والأرداف. «الآلة الحلم تجدونها في معهد إم. إف. إس التجميلي» قالت قبل أن تغيّر صوتها لتعود إلينا بخبر مهم جداً عن «مستقبل مولود برج الثور». تضحك، تصمت ثم تضحك ولا أستطيع أن أتخلّص منها لأنني لست في سيارتي. لا بأس. أغمضُ عيني من تحت نظاراتي الشمسية لعلّي أسمع ما أتخيّله داخلهما مثل صوت الأمواج أو موسيقى ألبوم «كونشرتو الأندلس» التي أعشقها. أرى البحر تحت جفني، أراه داخل عيني الثانية أيضاً، ولا أكبس بكفيّ على أذني إلا حين تتحوّل المذيعة نفسها عروساً تعدد لعريسها ما يجب أن يُنفّذ كي تكون ليلة زفافها «ليلتها». هنا أفكر في أن أكمل طريقي إلى العمل سيراً على قدمي ثم أصبّر نفسي.

لم أحب الراديو حين كان وسيلة إطلاعنا على تفاصيل المعارك بين مختلف «الأحباء» خلال الحرب اللبنانية. لكنني طالما حلمت في صغري بأنني أعمل في الإذاعة حيث أختار أن تبث الأغاني الفرنسية التي كنت مهووسة بها.

يصعب على الكلمات أن تنافس الأنغام إذا كانت هذه الأخيرة راقية. غداً صباحاً سأحارب لأسمع كلام الموسيقى. 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077