كعب عالي
يقف شامخاً على فترينة المحل بكعبه الذي لا يقل عن عشرة سنتيميترات، وجلده الايطاليّ الفاخر، وبقعة الضوء المركزة عليه باحترافية دعائية لا يمكن مقاومتها، فأكاد أقسم بأنه يهمس اسمي!
- «عزيزتي، الأحذية لا تتحدث» تقولها جارتي بسخرية بينما تجرني جراً من أمام المحل وأقاومها بكل ما أوتيت من (انهاك).
- «لا ضير في قليل من المشاهدة»
- «لعلك تشاهدين الرقم الجميل المعلق بجانبه»
وتصعقني الثلاث خانات التي تسبق رمز الريال السعودي، فأتنهدُ باستسلامٍ بدون ان أتحرك من مكاني. وأفكر بأن مجرد وجود أشياء كهذه في الحياة يعني ان السعادة ليست وهما كما يروّجون.
- «سيعود الأولاد من المدرسة قريباً، عليّ أن اشرع في إعداد الغداء»
تنشغل فجأة عن زعزعة أحلامي باتصال هاتفي من زوجها يذكرها فيه بكل الواجبات التي عليها أن تؤديها وتذكره عبثاً بالسبب الذي دفعها للزواج منه.
أُغافلها وأدخل المحل بدون تفكير. أتجاهل كلمات الترحيب المتملقة التي يسردها البائع كببغاء وأتجه كالمنومة الى حيث يستقر الحذاء.
- «تحبي تقيسيه؟»
- «لا شكراً بس حابة اتفرج»
يمد يده الى الحذاء بحركة فيها الكثير من الإجلال، يرفعهُ عن الفترينة ثم بهدوء وبشيء من السكينة يديرهُ أمام عينيّ المفتوحتين على معركة الاغواء الأزلية ويقول:
- «جلد طبيعي..»
يركز النظر على عيني مباشرة ويضيف:
- «ايطالي..».
ألمح شبح ابتسامة كانت لتكون بالغة الخبث لو اكتملت قبل ان يكمل بخبث «لسه واصل النهارده».
يحركه أمام نظراتي المغيبة فابتلع ريقي بصوت بدا لي ان جميع المتسوقين قد سمعوه قبل ان يقول:
«جربيه حضرتك» يلمح ترددي فيضيف في حركة بدت لي محسومة «مش حتخسري حاجة».
أُلقي من فوري آخر ما في جعبتي من أسلحة المقاومة، وأخطف الحذاء بتهور. وعلى الكرسي الأحمر الصغير في زاوية المحل أجلس كملكة. انزع الشبشب المهترىء الذي أرتديه تحت الكرسي حتى لا ينتبه له أحد، وأحبس أنفاسي بينما أدس قدمي في قلبه. وكسندريلا حقيقية «يختار» الحذاء ان يلائمني «بشدة».
أتقدم الى المرآه الصغيرة رافعة طرف عباءتي، ومادة ساقي الى الأمام قليلاً فأكاد أقسم بأني أصبحت أجمل، أصغر، وأكثر سعادة. تلاشى على الفور ذلك الطعم المر الساكن طرف حنجرتي منذ مدة لم أعد أذكرها. وفجأة أصبح تجاهل موعد اعداد الغداء للخمسة أفواه المتذمرة ليس بذلك الذنب العظيم الذي كنت أعتقد. لم تعد تبدو لي موحشة تلك الساعات الليلية الباردة التي أجلس فيها وحيدة على سرير أُعد لشخصين أتابع (اوبرا) وهي تشرح لنا معشر «الجاهلات» كيف نقول لشركائنا اننا نحبهم.
لم يعد قبول الجامعة ونسبة الثانوية والتهاب اللوز وآلام التسنين بذلك الحجم الذي كنت اتوهمه. أصبحت مضايقات أخت زوجي «غير اللطيفة» أمراً يدعو للرثاء وليس للقهر. ووليمة الغداء الغارقة في كميات الملح التي اعددتها لأهل زوجي تجربة بالغة الطرافة سأبدأ بروايتها في تجمعات الجارات الصباحية وأنا أضحك. اختفى تماما ذلك الرعب الذي ينتابني في كل مرة أواجه فيها جسدي أمام مرآة الحمام وحالما أصل الى البيت سأرفع المنشفة التي تغطيها وسأنفض الغبار عن الميزان الملقى منذ ولادتي الأخيرة في آخر زاوية من المستودع. سأسجل اسمي في النادي الرياضي المقابل لمنزلي وسأبدا التفكير جدياً في أخذ دروس لتعلم الايطالية إذ من يدري متى ستسمح لي الأقدار بمشاهدة سقف السستين عن كثب.
«لقد سرقنا الوقت، علينا العودة الى المنزل حالاً»
التفت الى جارتي المشغولة بالاتصال بالسائق. وبعد خمس دقائق كنا في طريقنا الى الواقع، وكان الحذاء لا يزال يقبع بخيلاء على فترينة المحل ويهمس اسمي.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024