تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

1986

1986

لم نسمع صوت الرصاص ذلك اليوم. كنا في الصف نناقش قصيدة «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب. لم تكن تمطر في الخارج. كان الهدوء غريباً، هدوءاً «مفبركاً»، هدوءاً فرضته المعارك وتوازن الرعب في الشوارع المحيطة بالجامعة. لم نسمع الرصاص، لكن رجلاً قُتل على بعد أمتار من غرفة الصف ومن كلمات السياب التي شربناها مع الخوف وقليل من الماء بعدما عرفنا بزيارة الموت تلك. ذلك اليوم قررتُ الهروب إلى أميركا. وكنت قد اشتقت إلى كل هؤلاء الذين يحبهم مَن أحبهم، لكنهم ماتوا مظلومين أو مقتولين. حاولت في تلك الفترة أن أكتب الشعر، أن أؤرخ في جمل شعرية لما يحدث. كنت أكتب لنفسي.

أعترف بأنني شاعر فاشل كما أدركت لاحقاً أنني رسام فاشل. ويعوّض عن فشلي الإبداعي التزامي بدوري الأكاديمي وتقديري لعلاقتي بتلاميذي وحاجتي إلى الاحتكاك بحماسة بعضهم للحياة وعبقرية تعاطيهم مع اللحظة الراهنة واستفادتهم منها. أحب عند بعض تلاميذي أنهم حين يفتحون عيونهم على يوم جديد مختلف، يتغيّرون. أما أنا، فما زلت أنا. ما زلت متردداً ضائعاً بين الماضي القريب والحاضر، بين بيروت ونيويورك، بين علاقتي بأمي وعلاقتي بحبيبتي. قلت لإيما قبل أن أغادر إن ليس واجبي تجاه أمي ما جعلني أقرر العودة إليها بل إعجابي بها الذي اكتشفته أخيراً. كنت قبل عودتي مقتنعاً بأنها تحارب النسيان وحدها وبأنها ترفض الاستسلام للغياب لأنها تحب الحياة كما لم أحبها أنا. أردت أن أنقل لأمي إعجابي بشخصيتها وبثقتها بنفسها، وأن أعترف بأنني أعرف أنها حاولت أن تزرع فيّ الثقة بنفسي، لكنني خذلتها.

مذ عدت، أقبّل أمي كل يوم ثم أحمل معي إلى المقهى رائحة الورق. أحمل نظاراتي وشامة في وجهي ورثتها عنها. لم تفتح أمي عينيها هذا الصباح لترى كيف ابيضّ شعري وضاقت عيناي. لم تشمّني.

هدى التي تعرفتُ إليها في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، لا تعرف شيئاً عن الحرب. تسألني عما كان يحصل خلال أعوام الحرب الستة عشر في لبنان. ولدت هدى عام 1986 قبل أيام من هروبي إلى أميركا. تسمع عن الحرب، لكنها لا تعرفها. ولا يحكي والداها عنها. لا تسألهما عنها. أتعجب كيف لا يدفعها فضولها إلى السؤال عن حرب ما زالت مستمرة تحت عناوين مختلفة. نصحتُها بأن تقرأ عن الحرب. أهديت إليها كتباً وأعطيتها مقالات تفيدها في فهم فيلم الحرب المستمرّ.

جميلة هدى، لكنها في معظم الأحيان تربّي جمالها على حساب ذكائها الذي لا أشك فيه لحظة. ولا أؤدي في علاقتي معها دور الأستاذ، فلست أستاذها وإن كانت في سنّ تلامذتي. لا تُنسيني هدى إيما. لكنني أصبحت أشتاق إليها. أتساءل أحياناً إذا كنت أعيش الآن مراهقتي. لكن هدى نفسها ليست مراهقة بل ناضجة ذلك النضج الجديد الذي لم يزره اليأس بعد.

حين كنت في سن هدى خجلت من الحب ثم لم أصدقه، وتعاليتُ عليه معتبراً أنني أذكى منه وأكبر منه أيضاً. الحب في بيروت ليس كالحب في نيويورك، والفرق بين إيما وهدى يسمح لي بأن أحبهما معاً، وبألّا أنسى إيما حين تصرّ هدى على مطاردتي.

كيف لا يدفعها فضولها إلى السؤال عن حرب ما زالت مستمرّة تحت عناوين مختلفة؟

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077