تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

موت 'حيّ'

كادت أن تدمع عيناي حين استعدت حريتي الصباحية. موسيقى الصباح تحرّرني. عيد ميلاد ابنتي اليوم، ولن أصل إلى المكتب في التاسعة. سأزورها في المدرسة وأغني لها. وقبل أن أزورها سأهرب إلى نفسي في مقهى صغير. لن أطبّق ببراعة سيناريو كل يوم. قبل أن أحتفل بعيد ابنتي مع أصدقائها في المدرسة وبانتظار أن يبدأ الاحتفال، استعدت طقسي الصباحي القديم. سلّمتُ على البحر، عانقت هدوء المقهى الصباحي، أغمضت عينيّ لأكثّف إحساسي بحريتي الموقتة. لاحظت أن في داخل المقهى الأميركي القريب من البحر داخلاً آخر يمنع عنا الحقيقة، وأن الموسيقى في زواياه تصنع الوهم. تنسج النغمات الوهم ثم تتكاتف مع الأضواء لنصدّق أننا في داخل واحد فقط.

أحاول ألا أفكر في ندا الإيرانية التي ماتت أمامي. صدّقتُ في البداية أن جسمها جسر العبور إلى الحرية كما قرأت في قصص بقي معظمها في سجن الكلمات. في لحظات اليأس أقول إنها قصص لا يترجمها الواقع، قصص تبقى في كتب منسية.

لم أقل لها توقفي عن الموت. أعرف النهاية، هي نهاية تلفزيونية أخرى لموت حيّ «لايف» تنقله لنا الشاشة بأمانة تامة. بدا هذا الموت السريع بطيئاً. تخيّلته قبل أن أراه. حُكي لي قبل أن تصدمني مشاهدته بعدما عرضته الشاشة مرات عديدة. ظننت أن من واجبي أن أفتح عينيّ وأن أغضب وأحزن.

طلب والد ندا منها ألا تغمض عينيها، ولعلّه وهو يضيع في مصيبته سأل نفسه: «لمَ أنا هنا في بلدي؟ لمَ ما غادرته بعد؟».

أخاف من أن أتهم بالجبن والجحود حين أسأل: لمَ الأثمان باهظة إلى هذا الحد؟ أثمان ماذا؟ هل الوطن أغلى أم الحرية؟ الحرية وطن، لكن الوطن ليس الحرية. الوطن كذبة أحياناً ووجع أحياناً أخرى. الوطن خائن أحياناً وقاس أحياناً أخرى.

صدّقتُ أن الأجسام يمكن أن تكون جسور العبور إلى التغيير وأنها تغيب لأهداف تتحقق لاحقاً. وقلت إن جسم ندا جسر العبور إلى وطن يُرفض فيه الذلّ. لكننا طالما خُذلنا، انتظرنا التغيير ولم يأت من الداخل على الأقل. الخوف من الموت أقوى أسلحة الصمت، الترهيب يهدّد بانهيار جسور الأجسام المسكونة بموت بطولي. لكن الفعل يبقى. تحكي الفعل كلمات تتحول قصصاً ومقالات والآن رسائل إلكترونية وصوراً. الكلمات لا تُقتل. الكلمات لا تغتال. أما الصور، فلا تتوقف صرختها ولا تشيخ ولا تبهت.

أقرأ عمّا عرفناه من تاريخ منطقتنا الحديث، أقلّب الصفحات بين ضيق في التنفس ووجع في الصدر، بين ظلم فرض علينا وظلم يمارسه «الداخل» في كل بلد بحقّ «داخل» آخر، بين هزائم عسكرية ومعنوية وثقافية وهزائم أخرى. ألهذا ننسى سريعاً؟ ألأننا نريد أن ننسى كي نستطيع أن نعيش؟ لكننا بالنسيان نغرق في الجهل. كثيرون في لبنان لا يعرفون ما حدث فعلاً خلال الحرب الأهلية التي ما زالت جزءاً من الحاضر، ما زالت الحاضر كلّه. نقنع أنفسنا بمنطق انهزامي في عالم أصبحت فيه المقاومة الفكرية أو الثقافية إرهاباً أو ضرباً من الجنون.  

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077