تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

المقعد الأمامي

جلستُ في الصف الأول. اخترت المقعد الأمامي، ولم أستفد. رأيتُ ما منعت نفسي من رؤيته منذ كنت في الثامنة. رأيتُ النهاية. حتماً سينتهي العرض وسأكون وحدي. مَن لا تنتهي عروض أيامه؟

بين السينما والمسرح أختار السينما بالرغم من أنني أعيش حياة غير سينمائية، وغير مسرحية أيضاً. أمضغ وحدتي بهدوء كل يوم. أمشي في البساتين وعلى الشاطئ، أتسلّق الجبال. وهناك فوق، أستمع إلى أنفاسي وأقرر أنني قوي وقادر على التغيير. «تغيير ماذا يا علي؟» أسأل نفسي حين أعود إلى تحت، إلى طرق القرية الضيقة وشوارعها بقصصها التي لا تتغير. ثمة دوماً مَن يسرق ليمون أبي حسن وثمة دوماً صبية عالقة بين شابين من القرية يتقاتلان لأجلها، وهناك أحلام تبحث عن أحلام مثلها بالطيران فوق البساتين إلى مجهول مفاجئ غير ممل ّ ويستحق الحالم به، لأجله، الحياة. 

«تغيير ماذا يا علي؟» لا يحدث شيء. لم آتِ من قصة، أنا ابن الفراغ وأمي دلّلتني. وكانت قد دللت نفسها قبلي. والدها خريج أول مدرسة في البلد، وابن بيت عريق. وهي الأجمل والأذكى بين نساء عائلة أبي كلّّهن. كان يخيّل إليّ حين تتكلّم أن الكلمات تخرج من أنفها، ويصعب عليّ حين أسمع صوتها أن أركز على أي شيء آخر. كانت مثقفة بالنسبة إلى نساء محيطها، وتردّد دوماً أنها حاولت دخول كلية بيروت للبنات، لكنني أظنها اكتفت بأن حلمت بذلك.

تزوجتْ أبي. كان قد افتتح متجره الأول في شارع اللمبي في وسط بيروت، وبدأ بناء منزله في القرية. وكان قد اشترى بيتاً في بيروت في منطقة رأس النبع. وكان وسيماً أيضاً، طويل القامة نظيفاً أنيقاً كما قالت عنه دوماً. رأيتُه في الصور، وفي رسومها، يقف خلفها دوماً. أُغمض عينيّ، فأراها جالسة على الكرسي وهو واقف خلفها تلامس أصابعه كتفها.

أَحَبَّ فيها أرستقراطيتها، وحبها الحياة وتعلّقها بها. وبعدما مات فجأة، بعدما اختفى، أصبحتْ أكثر تعلّقاً بالحياة. قالوا إنها لم تحزن عليه طويلاً، بالرغم من أنها رسمته كل حياتها.

نسيتْ أمي الرسمَ ونسيتْ أصابعها، نسيت أبي وكلمات الأغاني التي كانت تستمع إليها وترددها خلال جلسات سمّتْها «جلساتي الخاصة أنا وأنت»، حين كانت تطلعني على رسومها والكتب التي حاولتْ أن تكمل قراءتها ولم تستطع لأنها مشغولة بنا و«لأنها صعبة أيضاً» كانت تقول ضاحكة. ثم ترعبني حين تضيف: «أنت ولي العهد، أنت الرجل الذي بقي لي. أريدك كما تخيّلتُك صاحب سطوة وهيبة، رجل أعمال ناجحاً مثل والدك أو نائباً في البرلمان أو طبيباً مشهوراً. أريد أن أفتخر بك وأنصحك وأعيش لأجل نجاحك». وأحياناً تقول لي: «سأختار لك أجمل البنات، تستطيع أنت طبعاً أن تختار، لكنني يجب أن أقبل باختيارك. ليس لي غيرك يا حبيبي وأريد أن أفرح  بك وأطمئن عن راحتك».

هربتُ. لم أرها إلا مرات قليلة خلال عشرين عاماً. زيارات قليلة جمعتنا. حين ذهبتُ في العام الأول أو الأعوام الأولى كان يقتلني شوقي إليها وحاجتي إليها أيضاً، والآن عدت لأودعها كل يوم. لا أعرف إذا كان النسيان نعمة كما صدّقتُ حين رأيت السلام في عينيها، لكنني فهمت لاحقاً أنه فراغ. وهي لم ترتكب ما يجعلها تستحق هذا العقاب. تبدو لي مرتاحة. تبدو تائهة لكنها مرتاحة. الطبيب قال إن صحتها جيدة وإنها تستطيع أن تعيش طويلاً في هذا الغياب.

جلستُ في الصف الأول، وقبل أن تبدأ المسرحية قررت أن أحقق أحد أحلام أمي. قررت أن أتزوج.

«صدّقتُ أن النسيانَ نعمةٌ حين رأيت السلام في عينيها، لكنني فهمت لاحقاً أنه فراغ. وهي لم ترتكب ما يجعلها تستحقّ هذا العقاب»

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077