تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

فكرة بيضاء

أمام صندوق أبيض ووسط دهشتي البيضاء ولأجل البياض الدامع في عينيّ اخترت ورقة بيضاء. لست مستسلمة ولا آتي من الهامش أو أسكنه. لست واقعية كفاية ولست حالمة كما يجب أن أكون كي أحب الألوان في بلدي. ذهبنا في يوم جميل من أيام حزيران إلى القرية. فرح الولدان بأشجار الدراق والتوت وبطيور وكائنات صغيرة فرشت لهما شريطة بيضاء من الضحكات الصادقة.

كان ذلك في يوم خفنا جميعاً منه. لكنني شخصياً لم أهتم. قلت إنني لن أهتم وإن القرف من التصانيف السياسية بألوانها وعباراتها وغبائها واحتقارها ذكاء المواطن الذي ينساق بثقة إلى هذا الاحتقار، سيمنعني من الإهتمام بالحدث نفسه وبنتائجه. لم أسمح لأحد بأن يشرح لي أهمية واجبي الوطني الملوّن. ثم وجدت نفسي أختار الأبيض. ارتديت ذلك اليوم قميصاً أبيض وحملت وردة بيضاء ثم ركبت سيارة بيضاء قبل أن أصل إلى الصندوق الأبيض.

تخيّلت أنني أسمع كلمات بيضاء من نساء وقفن بحماسة أمام باب أبيض يؤدي إلى الصندوق الأبيض. «أيمكن أن أسمع الكلام أبيضَ؟» سألتُ نفسي.

كان الرجل الأصفر في الداخل يحدّثني بالإنكليزية. لم أفهم لماذا. هل منظري كندي إلى هذا الحد؟ «لم أعش في كندا»، أكدت له. «زرتها لكنني لم أعش فيها»، رددت عليه بلهجة لبنانية بيضاء.

 ليس الأبيض استسلاماً، وليس تنازلاً عن حق أو ضعفاً. وليس الأبيض الخيار السهل. الأبيض موقف، الأبيض رفض لألوان النظام الطائفي ودعوة إلى محوها. الأبيض غياب الألوان.

اخترت الأبيض نهائياً يوم وصلت جارتي في طائرة ملوّنة لتصرخ بصوت ملوّن. من الطائرة إلى الصندوق، لوّنتْ طريق عودتها بعدما استفزّها الأبيض الذي صبغتُ به لهجتي وموقفي واختياراتي وسيارتي وقميصي.

«جارتي العزيزة» كتبتُ لها. «لا تثقي بنظام الألوان، ولا تهربي إلى لون يحدّد انتماءك الطائفي. أزيلي الحدود بالأبيض، واتركي لاتساع الأبيض أن يسمح باتساع إنسانيتك لتغطي العالم كله بألوانه الطبيعية ولغاته وصراعاته. الداخل أضيق مما يخيّل إلينا، والحياة قصيرة ومدروسة ألوانها، فلمَ نُتعب حواسنا وعقولنا بمزيد من الألوان ومزيد من الحقد؟».

الأبيض صرخة، صفحة جديدة في كتاب تاريخ غامض وسخيف ومفكك ومعقّد. بين الأوراق الملوّنة بأسماء ملوّنة، سقطت أوراق بيضاء في صناديق اختيار النواب اللبنانيين «الجدد»، بالرغم من أنهم استهلكونا طويلاً، في السابع من حزيران يونيو. هذه المرة سُمع صوت الأبيض. حلمت بأن أصحاب الوجوه السوداء فوجئوا بأوراق بيضاء في صناديق الاقتراع كلّها، فاحمرّت وجوههم خجلاً لا غضباً أو طمعاً أو رغبة في الانتقام.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077