تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

لبنان سويسرا؟ بيروت باريس؟

بطاقتي في جيبي مع علبة السجائر، بطاقتي واسمي العربي في جيبي حيث تختبئ صورتي وعيناي وشفتاي وجبيني وذاكرتي. أمشي وتمشي فيّ الرغبة في لقائكِ. لم يتأخر الوقت. ما زلتُ قادراً على استعادتك إذا أردتِني. أعود في طائرة الغد إلى باريس ومنها إلى نيويورك. لا شيء مستحيل. «الثلاثاء 17 فبراير» تاريخ مطبوع على بطاقة أخرى في جيبي.أتذكرين ذلك اليوم أمضيناه في المتحف؟ أشتاق إلى أن أتنقل في المدينة تحت المدينة، أركض بين باب سحري وآخر، في المترو أنتظر المفاجآت وأسعد بها. أركض كي لا يتأخر الوقت. أخيراً عدتُ لا أخاف من البرد.

تركتُ لك أن تجرّبي العيش من دوني، تركت لك زمناً تنسين خلاله أنك تواعدت مع رجل قبلي على أن تمضيا الحياة معاً، وأنجبتِ منه صبياً قبلتُ بأن يناديني «بابا». لا بأس، لا يمكن أن يكون قلبي أطيب ولا أقبل أن تسرقي مني كلامي على تعلّقي بالوحدة وتقديري لها لتقولي إنك أنت أيضاً تريدين أن تعيشي وحدك.

عدت من بلدك إلى بلدي، واسمي اليوم هو الاسم نفسه الذي حملتُه البارحة. ما زلت أحب أن أستمع إلى أسمهان وإلى موسيقى أستور بيازولا وأخاف من أفلام الرعب. أنا هنا وهناك في الوقت نفسه، طالما كنت هنا وهناك معاً رغم ادعائي أنني محوتُ الحنين إلى بيروت وإلى قريتي في جنوب لبنان. أعدّ رسائلك الإلكترونية وأحصي أمكنتي التي اختفت في بيروت بعدما تركتها خلال عشرين عاماً. وأقول إن اختفاءها عقاب لذاكرتي ولقسوتي على نفسي عبر الجمع بين إحساس بأنني ناقص، وأنني أكتمل بك، وخوف عجيب منك على وحدتي.

أنا لستُ أنا. أنا الآن شخص آخر، أنا بطل رواية عشتُها. ولدت في لبنان وكبرت فيه وعدت إليه رجلاً في منتصف العمر، وربما الأربعون عاماً التي عشتها منذ لحظة ولادتي في 22 آذار 1968 هي عمري كله، مَن يدري؟

ما زلت لا أفهم لبنان. لا أفهم العلاقات بين الأحزاب فيه وبين السياسيين فيه، ولا أفهم المقالات في الصحف. لا أفهم مَن يحب مَن ومَن يكره مَن. لا أفهم لمَ بدأت حرب وانتهت أخرى، ولمَ يحمل الشبان في الشوارع سكاكين في جيوبهم أو لمَ سمّوا لبنان سويسرا الشرق وبيروت باريس الشرق الأوسط. أضحك لفكرة أن بيروت تشبه باريس.

حين بدأ هوسي بكتب التاريخ محاولاً فهم تاريخ المنطقة الحديث كنت مسكوناً بشغف بأخبار أمي عن بيروت الخمسينات والستينات حين كانت وجوه من بلدان مختلفة ملوّنة بألوان مختلفة تمشي في شارع الحمرا حيث تُسمع لغات العالم كلّه. كان كل شيء مسموحاً به في بيروت «كل فكرة، كل هوية» كما قرأت في خاتمة كتاب رائع للمفكر إدوارد سعيد العربي النيويوركي مثلي والذي يحمل عنوان قصيدة لمحمود درويش: «بعد السماء الأخيرة».

وعيتُ سريعاً أن حنيني غبيّ إلى ماض لم أعشه وإلى زمن دارت أحداثه قبل ولادتي، وأن الكلام كلّه عن سويسرا الشرق لم يكن سوى سراب. حين زرت سويسرا أدركت كم ظلمناها بتشبيهها بلبنان حيث نعيش الآن مهددين بالحرب وبأن ننقضّ على بعضنا البعض وبأن ينقلب استقرارنا الهشّ إلى جحيم.

أفتح عينيّ لأتحدى ليلاً طويلاً مصحوباً بأنغام راديو العسكري حارس جاري الزعيم السياسي أحد تماثيل حروبنا الخالدة. لو كنت في نيويورك لانتظرت أول الصباح لأقول لك: أريد أن نعيش معاً. لكن جمال الصباح وعلاقتي الرائعة به ينسيانني حاجتي إليك. وبين الصحف وكلماتها والخطوط تحت الجمل في الكتب أعترف بأنني أنساك.

وعيتُ سريعاً أن حنيني غبيّ إلى ماضٍ لم أعشه وإلى زمن دارت أحداثه قبل ولادتي، وأن الكلام كلّه عن سويسرا الشرق لم يكن سوى سراب.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077