تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

ليل بيروتي

أكتب في ليلي البيروتي. وكنت أقرأ ليلاً وأترك الكتابة لساعات الصباح الأولى. لكنني أخاف من أن يسبقني الوقت. أكتب. كل كتابة يدفع إليها خوف من الموت. في كل كتابة جرأة التخفّي وراء الخوف من الموت. في كل كتابة عمق الخوف من الموت. أكتب لنفسي ولحبيبتي: «كيف يكون العيش من دون كلمات؟». تضحك عليّ الكلمات. تجعلني أحس بأنني أقوم بأمر مهم جداً. فأصدّق نفسي وأصدّقها.

أقنع نفسي بأنني صديق الكلمات وبأنها تحمل لحياتي المعنى. أترجم ما كتبتُه بالعربية لصديقتي الأميركية إيما. لكن كلماتي عادت لا تؤثر فيها. بدأت إيما تصحو من نوبة حبها لي. وكنت أقول لها إنها تستأهل شخصاً آخر. أكاد أراه ذلك الشخص الذي أغار منه قبل أن يكون موجوداً. أراه أنيقاً دوماً في قمصانه الزرقاء أو البيضاء. أراه في سترة كحلية إيطالية الإسم وبنطلون من قماش فخم رمادي أو كحلي. إختاري له اسماً أنيقاً أيضاً أو تريدينني أن أختار له اسماً من أسمائكم الأجنبية؟ لن أكون هذا الذي قررتُ أنا أنك تحلمين به وأنك ستتعرفين إليه. سأبقي شعيرات ذقني نابتة وشعري مجنوناً وستلبس نظاراتي دوماً نظارات بلون غبار الأيام. ولن أقاوم السيجارة بعد الآن، لا تطلبي مني أن أقاومها.

أعيش هنا في بيروت مع أشخاص لا تعرفينهم. أعيش مع أموات، مع وجوه من التاريخ وروائح متخيّلة. أعيش مع كل هؤلاء خصوصاً حين تغيبين عني. أحاول مثلك أن أستغلّ التكنولوجيا. لا أستطيع. أعود بفخر إلى قلم الرصاص. أرسمك وأوقّع اسمي تحت خصل شعرك وفوق شفتيك.

أحب أن أجلس معك حين لا تكونين هنا. أذكر أنك تخافين من التجاعيد، وأمشي نحو مرآتك في غرفتي البيروتية. أراك فيها. لكنك تركتني وحيداً في مدينتي الأصلية، وحيداً في منفاي الأول.

لا تفهمين لمَ ما عدت أحب الشعر. "لأننا، في منفاي الأول، نعيش على الكلمات فقط" قلت لك. ثم عدت إلى بيروت كي أكتب إليك في ليل بيروتي ما أكتبه الآن.

في ليل بيروتي سمعت صوت انفجار يختنق. بدأ هائلاً ثم خفت سريعاً. انفجر صوتٌ واختفى قبل أن يكمل انفجاره. لم أنسَ أنه زمن الانتخابات النيابية في بلد ولدتُ فيه رغماً عني. وأسأل نفسي كل يوم لمَ ولدت فيه، ولمَ عليّ مثل مدمن شاشات أن أهتمّ بنشرات الأخبار والتفاصيل العاجلة على المواقع الإلكترونية وبما يحصل في الشرق الأوسط وما يفكر فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما ومساعدوه وما يخططون له وما يخطط له أعداءهم. لمَ عليّ أن أخشى نيات هذا الوحش البشري أو ذاك. أحلم حين أكتب وأكتب حين أحلم. في الحلم والكتابة أستعيد طفولتي من ماضي الحرب الملتهبة وأضمّها إلى حاضر الحرب الباردة في البلد الصغير، منفاي الأول، وأهرب بأيامي الماضية إلى بروكسيل أو أثينا أو نيويورك حيث تعيش حبيبتي.

أسمع صوت الإنفجار وأقلق ولا أنساكِ. أنتِ هناك في نيويورك تمرّين مستعجلة من أمام متحف الفن الحديث أو تزورين صديقتك في جامعة كولومبيا قبل أن تتناولي غذاءك، بيتزا أو سلطة، ولا تفكرين فيّ.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077