مشروع خطوبة
اسمي أماني. واليوم صرّح لي عبد العزيز زميلي في العمل أنه يريد أن يخطبني!
بدأت الحكاية عندما وصلني اتصاله الغريب وغير المتوقع في وقت متأخر من الليلة الماضية، ما أضفى على الموضوع المزيد من الشبهات.
في البداية لم أتعرف على رقم المتصل لأني ورغم عملي في أحد أشهر مستشفيات (الرياض)، والذي يعج بمختلف الجنسيات من جميع المستويات الثقافية والاجتماعية ابتداءً من عامل النظافة «البنغالي»، وصولا إلى البروفسور، إلا أن تجاربي «البكر» كسعودية عاملة في مكان مختلط كانت كارثية لدرج جعلتني وبعد السنة الأولى أقرر وبحزم التخلي عن السذاجة التي رافقتني خلال سنوات حياتي والتي أُسيء فهمها بأكثر الطرق بشاعة وابتذالاً، وإتّباع سياسة تقشفية في تعاملي مع الجنس الآخر، ألخصها بالمقولة ذائعة الصيت: «ابعد عن الشر وغنّي له». ما أمّن لي قدرا أكبر من الراحة النفسية، وان كان الأمر لا يخلو من مناوشات بسيطة تقع بين الفينة والفينة، ينصرف أصحابها عني سريعا وهم يرددون في أنفسهم «ما ناقص هالبنت إلا الشوارب!».
وبالأمس ما أن وصلني صوت ذكوري مجهول الهوية حتى ارتديت من فوري وبتلقائية شديدة قناع العمل المضاد للتحرش الذي أضعه بشكل يومي من الساعة الثامنة صباحاً حتى الرابعة عصراً، فترة دوامي الرسمي في المستشفى، وأجبت بحزم:
- نعم!
- أماني؟
- مين معاي؟
-أنا عبد العزيز.
في جزء من الثانية مرت في ذهني صورته وهو يسير في ممرات المستشفى، متنقلاً بين الأقسام بقامته الفارعة ووجهه الهادئ وخطواته السريعة. ينهي أعمالاً هنا وأعمالاً هناك. ومعها تزاحمت ملايين الأسئلة في راسي، قطعتها فوراً لأجيبه في ردة فعل سريعة وصاروخية قائلة:
- من وين جبت رقم التليفون؟ وكيف تسمح لنفسك تدق في هالوقت؟
صمت بذهول أول الأمر ما أتاح لي الفرصة لمطالبته بتقديم إجابات وتبريرات موجزة ولكن وافية تشرح لي أسباب اتصاله، وكيفية حصوله على رقم هاتفي، وأسماء الأشخاص الذين موّلوا هذا الاتصال ودعموه فكريا وماديا. وعما إذا كان هناك شبهة تدخل لجهات خارجية ذات أجندة مشبوهة مع تحديد دقيق لجميع التواريخ والمواقع. وشرحت له بهدوء كيف أن أي معلومة يثبت مجانبتها للحقيقة قد تعرضه للمسائلة القانونية.
وفي جو من الارتباك، وتحت الضغط الشديد، اعترف لي بأنه لا يقصد إلا الخير. وانه حصل على رقم هاتفي من زوج شقيقته الذي يعمل في شركة الاتصالات. و«حلّفني» أن لا أي اجراء قد يضر بزوج شقيقته أو يتسبب في قطع رزقه، خصوصا وانه (أبو عيال) ولا يزال يدفع أقساط الرحلة الأخيرة إلى ماليزيا التي أصرت شقيقته - الله يهديها - على القيام بها والتي أمضتها بالكامل نائمة في الفندق، إذ أن الغرض من السفر - إغاظة سلفتها التي سافرت إلى ماليزيا السنة الماضية - قد تحقق بالكامل ولم يعد هناك ما يستدعي التعب والمشاوير!
ثم قدم كامل الاعتذار عما سببه من إزعاج لشخصي الكريم الذي لا يحمل له إلا كل الود والتقدير والاحترام وشيئا من التبجيل بما لا يعرضه للخروج عن الملة. وأوضح لي من فوره السبب المهم والحيوي الذي دفعة للاتصال بي وهو رغبته الشديدة والملحة في فتح موضوع ذي طابعٍ (مُعين) يستلزم الشيء الكثير من الخصوصية. ولما شرحت له ان أي موضوع لا شك يحتمل الانتظار، ويمكن وبكل بساطة فتحة معي في مكان العمل أمام الجميع وفي وقت لا يبدو مريباً. عاد ثانية واعتذر طالباً منى وعدا باستقباله غداً في مكتبي للحديث.
وافقت بعد تردد استجابة لنوبة الفضول التي انتابتني حول طبيعة الموضوع الذي قد يفتحه معي، فرغم كوننا زميلين ونعملُ في المكان نفسه إلا أني لم أتبادل معه أي كلمة من قبل بسبب الشنب الذي يحمله فوق وجهه.فتحت باب مكتبي صباحاً، وهو مكتب أتقاسمه مع موظفة أخرى لم أتمكن إلى الآن من توطيد معرفتي بها. ليس لكونها منعزلة أو انطوائية - حاشا لله - ولكن لأنها ببساطة لا تظهر في المكتب إلا صباحاً حال وصولها حيث نتبادل عبارات التحية الصباحية، ثم ترتدي البالطو الأبيض وترش عطراً قوياً أظنه من (لانكوم) وتبدأ مشواراً طويلاً لا ينتهي من الزيارات للمكاتب المجاورة وغير المجاورة، خصوصاً تلك التي يصادف أن يكون فيها رجال مقبلون على الزواج! ثم تعود آخر الدوام في غاية الإنهاك والتعب فتحمل حقيبتها في طريقها إلى البيت وتتبادل معي تحية المساء ثم تنصرف!
جلست خلف مكتبي، وأنا أفكر في اتصال عبد العزيز الغريب وعن الموضوع «المهم» الذي ينوي أن يفتحه معي. وقبل أن استرسل في التفكير رن جرس الهاتف غير المباشر حيث كان عبد العزيز يسألني إن كان الوقت مناسباً ليمرّ علىّ في المكتب.أجبته بالإيجاب. وبعد دقيقتين اثنتين كان يدخل من الباب ويجلس على الكرسي أمامي وهو يعتذر للمرة الألف عن أي إزعاج قد يكون سببه لي البارحة.
-ايش الموضوع اللي تبي تكلمني فيه؟
لطالما كانت المقاطع الصوتية القصيرة والمقتضبة التي أخرجها من أعلى نقطة في حنجرتي، بأكثر الطرق مباشرة، أفضل الوسائل الطاردة لأي عنصر ذكوري يمر في أجوائي. وهو ما لا تعترف به صديقتي (تغريد) التي تعتقد أننا نكون «أقوى ما يمكن» عندما نكون «إناثاً أكثر ما يمكن». الأمر الذي كنت أعارضه بشدة إلى سنتين مضتا. عندما بدأت أعيد النظر بحذر في كلامها، وأنا أرى الجميع يتسابق في خدمتها، ابتداءً من المراسلين الذين يتراكضون يميناً ويساراً بمجرد أن تحتاج لكأس ماء، إلى رئيس القسم البروفسور الكبير والمتزوج الذي يتغاضى عن غيابها المستمر وساعات دوامها غير المنتظمة، بينما كل ما تقدمه هو ابتسامة صغيرة عذبة وكلمة «شكراً، يعطيك العافية» تقولها كما لو كانت هند رستم ولا شيء أكثر!
أماني.. عزيزتي.. إنهم سذّج أكثر مما تتخيلين..
ومنذ سنة زفت إلينا تغريد الخبر المفاجأة والمتمثل بعقد قرانها على أحد الأشخاص المشهورين في الوسط الطبي والذي أخذ منها وقتا أكثر مما كانت تعتقد لتتمكن من اصطياده وإدخاله الفخ الذهبي كما أسرت لي بعد ذلك.
- سأدخل في الموضوع مباشرة أعتقد أن المقدمات لا تتناسب ووضعنا كشخصين عاملين مشغولين على الدوام ولا يملكان ترف الوقت.
بدأ عبد العزيز يتحدث عن نفسه بطريقة لم أتمكن من فهم مغزاها أولا، فماذا يهمني إن كان من عائلة (الفلان) وكيف من الممكن أن تعنيني أصوله (القبلية)، ثم لماذا يخبرني عن عدم موافقة والدته على فكرة زواجه من امرأة عاملة، وإصراره هو على عدم جدوى رأيها!
- أستاذ عبد العزيز. مالذي تريد أن تقوله بالضبط؟
- أريد أن أتقدم لخطبتك.
استغل عبد العزيز حالة الذهول التي أصابتني لثوانٍ وشرح لي كيف وقع اختياره علي حالما فكر في الزواج. وكيف قضى الستة أشهر الماضية يراقب سلوكي وتعاملاتي أثناء العمل، فلم يرَ مني إلا ما يدعو للإعجاب والثناء. وكيف سأل عن أسرتي وعرف أنهم أناس أفاضل. وبعد الكثير من التفكير والاستخارة قرر أن يتوكل على الله ويتقدم لخطبتي رسميا، ولكن ليس قبل أن يحصل أولا على موافقتي المبدئية.لا أعرف المدة التي استغرقها عبد العزيز في الحديث، لكن ما اعرفه أنه توقف أخيراً عن الحديث بعد مدة من الوقت وهو ينظر إليّ باهتمام ويبدو كمن ينتظر مني إجابة.
- تقول انك ظللت لستة أشهر تراقبني وتسأل عني؟
- ولم اسمع عنك إلا كل خير.
- غريب!
قلتها بدهشة حقيقية انتقلت إليه تلقائيا وهو يقول:
-غريب أن اسمع عنك كل خير؟
-غريب أن أحدا لم يخبرك أنني متزوجة!
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024