تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

رائحة الكلمات

«ثمة ما تغيّر بيننا». لم أقل لها شيئاً، لم أجبها. لم أقل لها إنني أحببت أميركيات غيرها خلال عشرين عاماً من حياتي الأميركية، لكنني لم أحس بما أحس به حين تنظر إليّ.
وجدتُ فيها نفسي، وجدت فيها مرآتي التي أرى فيها نفسي. «ثمة ما تغيّر بيننا»، قالت «إيما» ولم أفهم. للمرة الأولى لم أفهمها. ويصعب عليّ أن أشرح لها ما لم أفهمه. فأنا لا أعرف أن أشرح الأمور بوضوح ولا أحب أن أثرثر. وهي تعرف أنني أحبّ الصمت.

حملتُ الكتاب الذي أهدته إليّ، إلى المكتبة التي غيّرت حياتي. في مكتبة «يافت» في الجامعة الأميركية في بيروت بحثتُ عن وجه «إيما». بحثتُ عنها في كتابها الذي تركتْه معي حين قررت أن تتركني في مطار بيروت.

 فرحتُ حين أصرّت على أن تأتي معي وتتعرّف إلى مَن تبقّى من عائلتي في بيروت والقرية الجنوبية.
لكنني لم أقل لها كم كنت سعيداً تلك اللحظة، وهي تعرف أنني لا أقول الكثير. جهّزتْ نفسها للقاء الماضي الذي هربتُ منه وحكيتُه لها. أخافتها بيروت بالرغم من أنها جهّزت نفسها للقائها. ربما أخافتها لأنها قرأت عنها في «روايات الحرب» المترجمة، وقرأتْ في عينيّ خيبتي. وربما خافت مني. ربما كان عليّ أن أسألها عمّا تغيّر بيننا. لكنني لم أتغيّر. ربما تغيّر الوقت، ربما تغيّرت هي. لم أرجُها أن تبقى. لا أجيد الرجاوة. ودعتُها بصمت قبل أن تستقبلني بيروت.

في المكتبة التي غيّرت حياتي قبل عشرين عاماً، ألصقتُ نظاراتي بأنفي وعظام وجهي. ألصقت عينيّ بالكتب والأوراق. هنا أجد نفسي. أعطي للوجوه أسماء. كانت لي هنا وجوه.
هنا اكتشفتُ حبي الرسم والكلمات، هنا قررتُ أنني خارج لعبة الحرب. بحثت بين الوجوه عن وجه إيما، ربما غيّرتْ رأيها وقرّرت أن تعود إليّ. ربما قررت أن تفاجئني في المكتبة التي غيّرت حياتي حين هربتُ إليها من ضياع الحرب وسيطرة الميليشيات الطائفية على مشاريع الشباب.
للكتب رائحة أشتاق إليها، رائحة التاريخ الهارب منها وإليها، رائحة قصائد نيرودا وسيزير التي قرأتُها لإيما. للكتب رائحة الموت أيضاً، لكنه موت مختلف، موت بمعنى وهدف، موت من دون ألوان وانفجارات، موت بالأسود والأبيض و«السيبيا».

 في هذه المكتبة أمسكت بالكلمات ثم أعطيتها لإيما. هي أيضاً أعطتني قصة سأكتبها حين أنتهي من قراءة شاعر كتب المنفى والموت ببساطة وروائي شرّحهما بين خطط التاريخ ومؤامراته.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077