مكتبة
بين دفني رواية من أربع مئة صفحة أدفن راسي. وكنعامة أصيلة أتشاغل بحبكات أدبية يكتبها محترفون حول شخصيات لا أتحمل وزر خيباتها عن كل ما لا أتمكن من علاجه أو مواجهته. وبقلم رصاص ارسم خطا ثابتاً وأنيقا تحت عبارات أظنها تلامس وجعي، تتذاكى شقيقتي عندما تحاول استخدامها لفك طلاسمي تماما كحجر رشيد وتفشل في كل مرة.
تستعرض الكتب المصفوفة بفوضى (مُنظمة) في كل زاوية من زوايا حجرتي، وتحتار بينما تحاول الاختيار أيها يستحق شرف التخلي عن الانترنت لمدة ساعتين يومياً.
-«كل هالكتب قريتيها! الصراحة انك فاضية»
أكثر مما تتخيلين!
أكثر حتى من بدوي بسيط يلقي كل أوهام الحضارة خلف ظهره ليقود أغنامه إلى نفس البقعة كل يوم، ويجلس تحت شجرة ما يرقبها تهيم، بينما يحاول أن يقرر أي المقطوعتين الوحيدتين التي يعرفهما عليه أن يغني. تضحك وتجيب:
-«انصحه يغني المقطوعة الثانية..»
أُساير سخريتها وأقول:
-«أنا بعد أشوف كذا...»
تسحب رواية ديميان لـ(هيرمان هسة) تفر صفحاتها بسرعة وتعيدها إلى مكانها ثانية.
-«ابي شي عليه خطوط كثيرة» تبتسم بمكر وتضيف:
«أبي فضايحك»
أخبئ بدون أن تنتبه رواية (عابر سرير) لـ أحلام مستغانمي تحت الوسادة بينما أمد لها (غايب) لـ بتول الخضيري وانا أقول:
-«الفضايح لا تحدث للإنسان الفاضي»
فتجيب ونظرة المكر لا تزال تتلصص على أعماقي كـأشعة سينية بينما تعيد الرواية إلى مكانها:
-«الفضايح لا تحدث (إلا) للإنسان الفاضي»
اجلس بتحفز على طرف السرير بينما أراقبها تمرر يدها على العناوين المرصوصة بعناية في مكتبتي وأحبس أنفاسي حينما تمر على رواية (سمرقند) لامين معلوف ثم أستريح ما أن تتجاوزها وتسحب شيئاً لـ (باولو كويلو) فأقول:
-«ايش الأهمية في معرفة أسرار الناس؟»
تجيبني بينما تقلب الصفحات بسرعة:
-«تقولها امرأة تعج غرفتها بأسرار الناس المطبوعة في كتب!»
تنحني على الرف الأسفل من المكتبة وتكمل:
«على الأقل أسرار الناس إلي نعرفهم مثيرة أكثر. نكون بطريقة ما شاهد عليها حتى لو كنا مجرد كمبارس»
تقفز بينما تقبض بيديها الاثنتين على رواية (اسمي أحمر) لـ(اورهان باموك) وتهتف بحماس:
-«هذ هي»
تعرض الغلاف أمامي بينما تقبض على الكتاب بيديها كمن وجد أخيراً ضالته ولا ينوي أن يساوم حولها:
-«راح اخذها..»
أمد يدي وانتزعها بعد الكثير من المقاومة وأنا أقول:
«دوري غيرها»
تنصرف من جديد إلى المكتبة، فالتفت إلى الكتاب بين يدي. امسح على غلافه الأسود كشيء حميم و((حي)). أتحسس أحرف عنوانه وابتسامة استسلام ترتسم على وجهي. و أمام اسم دار النشر المطبوع أسفل الصفحة ابتسم لذكرى معينة تتلون كل مرة مابين الانتعاش والشجن.
اقلب صفحاتها الأولى فتفوح في الأجواء رائحة الخيبات عندما نصر على تحنيطها أطول مما يجب. وعلى الصفحة الأولى أُمرر أصابعي على اسمي المكتوب بقلم رصاص في أعلى الصفحة وتحته مباشرة (ربيع ٢٠٠٥/ معرض الرياض الدولي)، ثم بأبجدية غامضة اخترعتها منذ الصف السادس الابتدائي - عندما اكتشفت أن بعض الأمور تثير رعب والدتي أكثر من عدم حفظ جدول الضرب - كنت قد كتبت سطرين مختومين بعلامتيّ تعجب وقلب.
افر الصفحات بحذر والمح الخطوط التي رسمتها على الصفحات. الوجوه المبتسمة، والوجوه الحزينة، وتلك التي تعلوها علامة تعجب. أغلقها بينما أفكر قليلا في كل تلك الذكريات التي تتجرد من (حميميتها) في غفلة منا، وتتحول إلى صور لآخرين لا يشبهوننا ولا نتذكر إن كُنا قد قابلناهم حقاً أم أنهم أضغاث أحلام.
التفت إلى شقيقتي المهتمة بالبحث عن مسلسل تعرف أبطاله أكثر من اهتمامها بأي شي آخر، أمد لها الكتاب وأقول:
-«تدرين.. خذيه، وإذا عثرتِ على أي أسرار فذكريني بها».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024