تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

حنين إلى حنين

بيروت عاصمة عالمية لكتاب لا يُقرأ. هذا ما نقرأه من خلال أرقام زوار المكتبات في العاصمة التي تتغيّر ولا يتغيّر فيها شيء. مكتبة الأطفال التي افتُتحت منذ عامين في منطقة الحمرا واعتدنا زيارتها، أُقفلت وارتفعت مكانها أسنان حفّارة ضخمة تأكل الأرض كي يأكل أصحاب الأرض المزيد من الأموال. «هي أموالهم وهم أحرار» يقول البعض. لكن الشارع تغيّر، وتغيّرت أحلام ابني الذي اكتشف خيبته الثانية بعدما هُدم مبنى حضانته الأولى القديم والأثري ليتحوّل موقفاً للسيارات. وأقفلت أيضاً مكتبة نوفل، جارة مكتبة طفليّ، لتُفتتح خلف أبوابها ورشة ننتظر بعد انتهائها مفاجأة غير سارة في الأحوال جميعها، على الأرجح متجر أزياء. لكننا ما زلنا في المكتبات العريقة الصامدة نلتقي الوجوه نفسها، نلتقي الأوفياء للكتاب والمؤمنين به. فنسلّم على بعضهم وندعو بعضهم الآخر إلى فنجان قهوة برائحة الهال والأمل.

 تتغيّر في بيروت البيوت وأشكال الشوارع وأجوائها. لكن أسماء أبطال حروبها القديمة والجديدة هي نفسها لم تغيّرها المعارك ولم يخفِها السلم.

جعلنا القرف من الوجوه القديمة بأسنانها واللعاب المتطاير من أفواهها والنيران المشتعلة في عيونها لا نتعرّف إلى التلفزيون. الحياة أجمل في حلقات الرسوم المتحرّكة ومخيّلتي طفليّ. أحبك لهما القصص، أتفنّن في اختراعها، أحكي لهما عن ولدين يعيشان في بلاد بعيدة. وأعرف أنني أضحك على ولديّ وأنني غير صادقة معهما لأنني أعرّفهما إلى بيروت واحدة وإلى جزء بسيط من احتمالات الحياة البيروتية المتعددة، وأنهما يريان من عاصمة بلدهما الأول الشوارع القليلة نفسها. فالمدرسة قريبة من البيت ومن أماكن لهوهما التي تضيق مساحاتها.

مدينة جديدة تنمو من تحت الأرض. مدينة جديدة تُحفر وتباع قبل أن تُبنى. فنسارع إلى شراء صور لبيروت «الأصلية» طُبعت على بطاقات من الكرتون، صور لعين المريسة والجامعة الأميركية وساحة البرج وساحة الشهداء. نسأل الأهل عن وسط المدينة القديم، فيرفضون الإجابة وإذا أجابوا لا يتوقفوا عن الكلام. كلّما كتبنا عن بيروت فاجأتنا بيروت جديدة. ويسكننا حنين جديد إلى حنين إلى المدينة أصبح قديماً، وهناك أيضاً حنين أقدم منه... أقرأ «اسطنبول» صاحب جائزة نوبل التركي أورهان باموك وأغار من إحساسه بحنين واحد يرسم له صوراً بعضها متخيّل، حنين واحد إلى مدينة عشقها وكتبها في رواياته وأبدع في كتابتها.

في موسم الانتخابات نسكن في مشاعر الحنين المختلفة والمتراكمة لمدينة تحوّلت إلى مشاريع مبانٍ، إلى «ماكيتات»، وحفر تنتظر أن تبتلع تصوّرات سكان افتراضيين يزورون شققهم البيروتية خلال إجازات قصيرة ثم يتركونها خالية من القصص. القصص الأصلية قتلتها الجرافات ثم ماتت في الذاكرة أو سُجنت في صور كرتونية تباع في المكتبات أو تقدّم هدايا مع الكتب لزيادة الرغبة فيها لأن بيروت في موسم الانتخابات النيابية «العالمية» عاصمة عالمية للكتاب...

تطلّ المدينة الجديدة في «الماكيت» ثم تُحفر وتباع قبل أن تُبنى.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077