تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

أصوات صديقة

تعيش أصوات في غرفتي. تعيش الأصوات معي ومع أبطال اخترتُهم بعناية. بعضهم مات في نهايات الروايات، وبعضهم مات منذ عامين أو أكثر. لا يجرؤ كلّ الروائيين على قتل أبطالهم. لكن الأبطال الحقيقيين يموتون بسهولة، يموتون بخفة كأنهم لم يكونوا أحياء.

القرى التي لا أمشي في أزقتها لا تعني لي شيئاً. ولا أتعاطف مع القرى المتشابهة في جنوب لبنان إذا لم أستمع إلى أصوات بساتينها وأزقّة ما زالت تحتفظ برائحة حليب البقر الطازج.
أمشي الآن في قرى جنوبية يرافقني صوت تلفزيون جاري الأميركي. ترافقني في زيارتي إلى قرية ظهر الهوا أصوات تلفزيون جاري ودراجة الشاب الذي يحمل البيتزا ساخنة إلى هانا في شقتها. تسكن هانا شقة في الطبقة نفسها من البناية النيويوركية التي غادرتها منذ شهر. أمشي مع وجوه أميركية ألفتُها. أعرف تلك الوجوه ولا أعرف وجوه أهل ظهو الهوا والسلمانية والعمرانية وغيرها من قرى مشيتُ فيها فقط كي أمشي. لم أخزّن أصواتاً جديدة في ذاكرتي لترافقني في نزهاتي بين القرى، بقيتْ فيّ الأصواتُ الأميركية نفسها.

اشتريت خلال نزهتي  حلوى «غزل البنات» البيضاء، وتذكرت فرحتي بطعمها قبل أن تخفّ فرحتي بأمور اعتبرتُها بسيطة مثل طعم الحلوى وأقلام التلوين. حاولتْ أمي أن تدفعني إلى اللعب «بالبارودة مثل الصبيان»، لكنني لم أحب تلك الألعاب، فضّلتُ الكتب والمجلات المصوّرة.

تتشابه وجوه الأطفال بين قرية وأخرى، بعضها يفتقد البراءة. أبحث فيها عن دهشة، عن ضياع. لكنهم أطفال يعرفون ما يريدون، بعضهم جاهز للانقضاض عليّ، أنا الغريب الذي يتفرّج عليهم تحت شمس صاحية وجريئة.
اتصلتُ بالبيت لأطمئن عن أمي. قيل لي إنها ما زالت نائمة. في ورقة في جيبي قرأت أرقاماً من دون حروف. لم أتذكر مَن تخصّ هذه الأرقام أو لمَ كتبتها على ورقة لمكتبة أزورها في نيويورك. ربما كانت أرقام هاتف لا أهتمّ بصاحبه، لكنني كتبتُها أمامه مدعياً أنني أقوم بما يجب أن أقوم به: واحد، ثمانية، ثلاثة، أربعة، خمسة، واحد. في السابع من الشهر السابع من عام 1988 تركت أمي وسافرت.
فوق النهر يرتفع تمثال الحرية. رأيته ولم أتأثر. بدا أجمل في الأفلام بين أصوات طلقات الرصاص وقصص حب خجلت من قول إنني أحلم بأنني بطل إحداها.

- «هل سكارليت جوهانسون حقيقية؟» سألت إيما قبل أيام من فراقنا.

انزعجت إيما من سؤالي، لكنها ابتسمت ثم ضحكت وقالت إنها تستغرب اهتمامي بجمال سكارليت.
«لا لم يُقتل أحد من أهلي في الحرب» كنت قد أجبت الشفقة والخوف في عينيّ إيما خلال موعدنا الأول.
عرفتُ الصورة التي غيّرت حياتي. أعرفها جيداً. منذ شهر أرسلتها لي أختي نجوى على عنواني الإلكتروني، صورة أمي بفستانها الأسود المزيّن بدوائر صغيرة بيضاء، مع سيجارتها وابتسامتها الذكية. تقبّل أمي في الصورة صورتي وأنا طفل.

منذ عشرين عاماً تركتُ أمي من دون ندم أو إحساس بالذنب، تركتها كأنني أنتقم من تعلّقها بي ونسيت. تذكرت الصورة والكرسي الذي جلست فيه، والسجادة المعلّقة على الجدار في الخلفية، تذكرت كل شيء، رائحة سيجارتها، رائحة شعرها وآمالها الفضفاضة، ديكتاتوريتها وحبها الرسم. تذكرت معركة العلميْن، ومحمود ابن الجيران حين أصيب في ساقه. تلك الليلة رفضتُ أن أحمل السلاح. تلك الليلة قالوا إنني جبان، فأكلت 4 سندويشات ولعبت الورق مع الصبايا.

كنت سجين بيروت، سجين جزء بسيط من بيروت، وما زلت، ما زالت ذكرياتي عالقة هناك، في خمسة شوارع بيروتية حيث أمضيت طفولتي كلّّها وأعواماً من صباي. في نيويورك أيضاً اخترت خمسة أمكنة تدور فيها أحداث أيامي. أحدها شقة حبيبتي إيما.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077