تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

'صديقي' عبد الرحمن

عرض عليّ ((صديقي)) عبد الرحمن أن ينشر مقالاً في مدونتي كزائر، وسعدت بالفكرة جداً لأنها بدت لي جديدة.

«اوكي راح أرسله لك الخميس.. ماشي؟»

«ماشي يا عبد الرحمن..»

قلتها وأنا أدرك جيداً انه لن يرسل شيئاً، على الأقل ليس هذا الخميس كما وعد، لأنه ببساطة إنسان فوضوي والمواعيد لا تعني له أي شيء. ولكن ما لم أُدركهُ وقتها هو أن تلك الكلمات ستكون آخر ما يصلني منه. إذ توقف فجأة عن الظهور (اون لاين) ولم يعد يرد على مكالماتي!

وعبد الرحمن ((صديقي)) شخص لطيف جدا، أتجنب الحديث عنه أمام والدتي وكأنه (عشيق) مع انه ابعد ما يكون عن ذلك، لسبب بسيط هو أنني أنجذب عادةً للطول الفارع والملامح القاسية والحضور الطاغي. وعبد الرحمن لم يكن كذلك، لقد كان.... ((لطيفاً)) ببساطة. 

قال لي مرة بأنني ((مُشوّقة)) ولما أجبته بأنه ((حساس)) كفتاة،  لم يعرف إن كان عليه أن يغضب من وصفي أو أن يفرح فقرر بدلا عن ذلك أن يشرح لي «دور المسرح في الحضارة اليونانية!»

«لو عشنا أنا ونتِ في بلد ثانٍ كنّا صرنا شي مختلف..»

«عبود.. خليك واقعي، الغبي غبي في كل مكان»

يضحك ويجيب:

«نفهم من كذا إن مالك أمل؟»

ورغم انه حاد الذكاء بطريقة مزعجة جداً، لا يفوته شيء على الإطلاق، وردوده لاذعة. فإنه يفاجئني أحيانا عندما يبدو بالغ السذاجة في مواضيع مُعينة تماما كمراهقة تقع في الحب للمرة الأولى. كتلك المرّة التي حدثني فيها عن إحدى صديقاته التي ضبطته والدته يحادثها تليفونياً حديثا ملتهباً فأقامت الدنيا ولم تقعدها.

«الله يهديك بس.. يعني ما كنت تقدر تقفل الباب»

جلجلت ضحكته الافتراضية المتمثلة في (سمايلي) أخضر اللون، تشق وجهة ابتسامة عذبة، يطبعه لي على الماسنجر حيث نقضي أغلب لقاءاتنا معا، فأتركه يكتب بالساعات تفاصيل حياته بغزارة بينما أتصفح  أنا مواقع أخرى ثم أعود إليه لأطبع عبارات من نوع:

«وبعدين».. «أها؟؟» ...«اوكي ؟؟»

ثم أنسى وجوده ثانية ويمضي وقت طويل قبل أن يلاحظ ذلك مرسلاً لي إشارة تنبيه صوتي مزعجة تترجم افتراضياً هكذا:

«أما زلتِ معي ؟؟!!»

فأخفي ابتسامة مذنبة بينما أطبع على لوحة المفاتيح بحروف كبيرة: «يعني وين تبيني أروح؟»

ويثرثر عبد الرحمن ((صديقي)) كامرأة. يتحدث كثيراً، أكثر حتى مني. يسرد بالتفصيل الممل تفاصيل التفاصيل، استمتع أحيانا عندما أملك ترف الوقت وأنزعج أحياناً عندما أكون مشغولة فأقول:

«عبد الرحمن ..الزبدة الله يجزاك خير ...» «اصبري تجيك السالفة »

ثم يعود يشرح لي في نصف ساعة كيف تغلب على معضلة انتهاء الشامبو أثناء الاستحمام مثلا، أو كيف أعاد توقيت المنبّه!

لطالما كان عبد الرحمن ((صديقي)) جزءاً من يومي. جزءاً مزعجاً أحياناً، ومريحاً أحيانا أخرى، وأحيانا ((حيادياً)) لدرجة لا أشعر معها بوجوده.

أسخر منه كثيراً عندما يحدثني عن مغامراته الفاشلة في إخفاء علبة السجائر عن والدته.

«ما اصدق إن عمرك 30 سنة..اللي في عمرك آباء »

«واللي في عمرك أمهات يالعانس..»

«العانس يا مثقف يا متعلم يا بتاع الشهادات مُفردة مُذكّرة .. المؤنث منها عزباء..»

«قولي هالكلام للخطّابة اللي تدفعين لها كل شهر بدون فائدة.»

«غبي..»

«ملسونة»

ونتخاصم بمعدل عشرين مرّة في كل مقابلة ماسنجرية أو تليفونية، إذ رغم معرفتنا التي تمتد لخمس سنوات مضت حين عملنا معا على تقرير صحفي يخص المؤسسة التي كنت قد بدأت العمل فيها حال تخرجي، إلا أننا لم نلتقِ فعلياً أكثر من ثلاث مرات هي المدة التي استغرقتها اللجنة التي كُلفتْ بتغطية الحدث، وكان عبد الرحمن وقتها هو الإعلامي المسؤول. ظللنا بعدها على اتصال وتوطدت علاقتنا بسلاسة وبدون أن نشعر.

كان يشتم رئيس التحرير الجاهل أمامي، ويستشيرني في العروض التي يتلقاها من المؤسسات الإعلامية التي تتخطفه - المغرور-، ولما حطمت ((أميرة)) قلبه ((اللطيف)) شتمتها ونصحته بالسفر.

«هل سيعرف ذلك الذي سيختم الجواز بأنني لم أعد نفس الشخص؟»

«بطّل دراما، أنت ألف بنت تتمناك»

«لو عرفتِ الحُب ما قلت هالعبارة الغبية.. يالغبية»

ولما عرفت الحب بعد هذا الحوار بثلاث سنوات، كان عبد الرحمن ((صديقي)) هو أول شخص أخبره.

«عبد الرحمن .. اعتقد اني مُغرمة»

صمت للمرة الأولى خلال الخمس سنوات التي عرفته فيها. أنصت إلي بخشوع بينما اسكب ضوع قلبي وأقول: «مجرد مشاهدة اسمه يضيء جوالي يجعلني ((أتوَهّج)).. هل تفهم ما أعني ؟؟

وكل ما قاله وقتها هو: «اوكي راح أرسل لك المقال الخميس.. ماشي؟»

-«ماشي يا عبدالرحمن..

ثم اختفى. توقف فجأة عن الظهور (اون لاين)، ولم يعد يرد على مكالماتي، ولا رسائلي، ولم أتلقَ أيّ إجابة على العشرين ايميل التي أرسلتها له. والأهم من كل ذلك انه لم يرسل المقال!

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077