حب بلغتين
«أنا عنيد». قلتُ لـ«إيما» منذ ثلاثة أعوام.
«أنتَ عنيد» قالت لي إيما منذ شهر. ولم تتصل بي خلال شهر كامل أو تردّ على اتصالاتي المئة والخمسين.
حين أنظر إلى أمي النائمة في سريرها لا تختفي إيما. أراها في جفنيْ أمي وفي عينيها التائهتين حين تصحو من نوم طويل.
«يجب أن أسرّح شعري وأبحث عن زجاجة العطر. سيأتي حسن بعد قليل. ولم أجهّز طعامه بعد».
«يا ماما أنا علي، أنظري إليّ».
حسن هو أبي الذي مات منذ خمسة وثلاثين عاماً على الطريق بين صيدا وبيروت. غادر طفولتي وتركني صبياً وحيداً بين أربع صبايا: أمي وأخواتي الثلاث.
«كيف أذهب إلى المطبخ؟ ربما أنا في المطبخ الآن».
«ارتاحي أمي، ارتاحي». أعطيها لعبتها لتضمّها بين ذراعيها وأخبرها قصة الأخوات الجميلات الثلاث التي كانت تحكيها لي قبل أن أنام. أتفرّج معها على ألبوم الصور، على فيلم الفيديو الذي سجّلتُه حين قررتُ أنني سأتخصص في الإخراج ثم غيّرتُ رأيي بعدما بكت يوماً كاملاً.
«ما معنى أن تكون مخرجاً؟ إشرح لي» سألتْ أمي. ونجحت مشاهد الحزن والصدمة هذه التي برعت في أدائها، في أن تؤثر في قراري. ولعلّ وجود أمي الطاغي على حياتي دفعني إلى الهروب إلى أميركا والاستسلام لحياتي فيها خلال أكثر من عشرين عاماً.
خرجتُ من أفراد عائلتي ولم يخرجوا مني بالرغم من أنني مشيت طويلاً ونظرت إلى وجوه كثيرة. أردت أن أنسى أهلي ومَن بقي منهم في لبنان. لكنني لم أنجح في مهمة النسيان. ثم جاءت إيما الأميركية وأنستني الدنيا. أحببت فكرة وجودها في حياتي. أحببت وجهها الذي حلمت بأنني أرسمه. وتحمّست للخروج من وحدتي إلى العالم، لأن أتوقف عن الركض أمام الأخبار التي تصلني من تلك المنطقة من العالم التي أنتمي إليها أو كنت أنتمي إليها.
لأجل إيما توقفت عن التدخين.. ولأجلها لم أحاول أن أتغيّر. فقد أعجبتُها وقبلت بي. لأجلها لم أصحّح الأعطال في شخصيتي. لأنها رضيت بي.
«عناده سيقتلني. يستحيل إقناعه بتغيير رأيه». تشكوني لصديقتها جنيفر. تنظر إليّ وهي تتحدّث معها على الهاتف. تتكلّم عليّ كأنني لست موجوداً. يطول حديثها مع جنيفر ولا أتوقف عن ادعاء أنني غارق في القراءة، فلا أستطيع أن أحيّيها بنظرة أو ابتسامة.
أردت أن أحب امرأة لا تتكلّم بلغتي... وأن أصبح أميركياً فقط. وما زلت لا أريد أن أعيش في عالمين، ولا أريد أن أواجه مسؤولية الاختيار. ولا أريد أن أختار بين عالمين، بين الهنا والهناك، بين الشرق والغرب، بين اللغة الإنكليزية واللغة العربية، بين الوحدة الحرّة والقيود العائلية. لا أريد أن أخطط أو أن أجد نفسي على مفترق طرق.
لا أريد أن أسمح للحنين بأن يتحكّم بحياتي. يكفيني منفاي الداخلي، يكفيني خوفي من أن أفقد إيما إلى الأبد. خشيت أن تتركني، أن تقول إنني أعيش مثل العجائز، لا أرقص ولا أغني في السهرات بين الأصدقاء ولا يغادر الحزن عينيّ. لكنني أريد أن أحضّر قهوتها صباحاً، وأن أرافقها إلى متجر «بوكس» لتشتري الفساتين الطويلة التي تليق بجسمها. وأحب أن أطهي طعامها بالرغم من أنني آكل في المطاعم والمقاهي مند عشرين عاماً. وأريدها أن تتهمني بأنني دوماً أعقّد الأمور ثم أن تقول ما تقوله حين أدافع عن نفسي: لا بأس، أحب أن أستمع إليك حين تشرح وتحلّل وتستطرد وحين تضيع في ضياعك الدائم.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024