تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

أميركية وأصيلة

«هون بيت الدكتور علي؟»

سمع علي السؤال، لكنه لم يخرج من غرفة والدته. ما الذي يريده هذا الولد؟ ترتطم كرته بالباب الحديدي. لا يوقظ صوت الارتطام أم علي الغائبة في بياض أحلامها. يسمع علي صوت أم عبد الله خلال مفاوضاتها مع الولد، لكنه لا يفهم ما تقوله. ربما كان غريباً بالنسبة إلى هذا الولد وإلى مَن هم في سنّه في القرية أن يروا باب البيت القديم وسط الساحة الرئيسية مفتوحاً. وربما لم يفهموا كيف تحوّل البناء المهجور إلى بيت تتسلّل منه إلى الخارج روائح الحياة  وتفتح نوافذه وأبوابه وتكنس من حوله أزهار الياسمين المنتحرة. يسمع علي البعض في القرية يسألون: أين الدكتور علي؟ لا نراه، ألا يخرج من المنزل. أيعقل أن يبقى ملتصقاً بأمه؟ وهل هو دكتور يعني "حكيم يحكّم المرضى في عيادته".

- «لا دكتور يعلّم في الجامعة». 

- «وماذا يعلّم؟»

- «يعلّم الرسم»

عند هذه الإجابة يفقد لقب علي أية هيبة كانت قد حملتها له ألسنة أهل القرية.

يسأل الولد صاحب الكرة عن الدكتور علي لأن والده يريد أن يقوم بواجب زيارته والسؤال عنه. لكن علي لا يعرف مَن هو والد الصبي ويريد أن يقفل باب الزيارات. لم يصدّق كيف تقلّص عدد زيارات أهل القرية إلى البيت المهجور بعدما انتشر خبر صمت الدكتور علي بين زواره. لا يساير علي ضيوفه ويكتفي بكلمات قليلة يردّ بها على أسئلتهم. لكن والد الصبي بسام الذي يعيش في الكويت، وتمضي عائلته الشتاء في بيروت، «يريد أن يُخرج علي من جو المنزل الكئيب»، أن يصحبه في جولة في المناطق والقرى المجاورة وأن يعرّفه إلى أهل القرية وأبنائها «المتنوّرين».

لم يتكلّم علي. ترك ضيفه يقول كل ما عنده، شكره واتفقا على أن يتصل به متى أحسّ بالحاجة إلى الخروج من الضيعة.

عاد علي إلى أمه ولوحاته. «أنا علي ابن ماجدة. أنا علي وماجدة أمي تنام وتصحو دون أن تتذكرني. وأحياناً بين النوم والصحو تبتسم. ما زالت جميلة كما تركتها منذ عشرين عاماً، وما زلت أرسم عينيها الواسعتين ووجهها العريض وشفتيها الممتلئتين. أغمض عيني وأرسمها. أجلس في غرفة أخرى لأرسمها، لأرسم صورتها في ذاكرتي. فحين أجلس قبالتها وأستعدّ لرسمها أحس بأنني أزعجها وأسرق منها هروبها إلى غياب الصور والألوان والحروف، إلى بياض يصيبني بالرعب. أحس بأنني أزعجها بالرغم من أنها تكون نائمة أو بعيدة عني، في عالم آخر من عوالم ذاكرتها البيضاء. في الغرفة الخلفية رسمتُها بثوب أبيض وهي تغتسل على الثلج، لكنني لم أستطع رسم عينيها التائهتين. أغمضت عينيها في اللوحة وأقفلت شفتيها، وحده ثوبها بدا مستعداً للكلام».   

هذا ما كتبه علي إلى إيما. غداً حين يقصد المقهى سيلقّم الكومبيوتر رسالته هذه وينقلها إليها. وستقرأها. يعرف أنها ستقرأها وتبكي. لا يمكن ألا تكون مشتاقة إليه. فهو يعرفها، يعرف إيما حبيبته. يذكر ما قالته أمه عن «الأميركيات كي لا يتزوج إحداهن: الأميركية تنساك في لحظة واحدة ولا تخشى تغيير حياتها. ليست أصيلة مثل بنت البلد».

ابتسم علي: «يا ماما إيما أميركية وأصيلة... سترين».

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077