سترة كحلية بأزرار ذهبية
قرأتُ عن الشاعر الكثير فأصبحنا صديقين ثم جعلتُه أخي ومرآتي. صورته، المطبوعة على غلاف الكتاب الأزرق، في غرفتي. ستراته في خزانتي: الكحلية المزيّنة بأزرار ذهبية والبنية الناعمة الملمس. ألبس قمصانه كل يوم. راقبت صوره وقررت أن أرتدي ما كان يرتديه. رأيته في أفلام صنعتُها في مناماتي، وفي أفلام أخرى خرقتْ عتمة الظلم. فقد ولدتُ مثله في بلاد الضحايا، ومثله غادرت إلى بلاد الجلادين.
يكتب بيد ويخبئ باليد الثانية ما يكتبه. يكتب صوته في قصيدة طويلة. أستمع إليه أنا الذي أقع في غرام الأصوات. من حياته الماضية بقي الصوت والكلمات. الصوت مسجّل في أفلام قصيرة وألبومات، والكلمات تتلألأ بها عيوننا. أنا أيضاً مهووس بالمدن من دون أن أعيش فيها بالضرورة. يمكن أن أتخيّل أنني في مدينة تخيّلت أنني أعشقها. وهنا تُفتح الأبواب على قصص أبطال لا أثق بهم لكنني أكتبهم رغم كل شيء. أرسمهم بالكتابة وأغيب عنهم وأشتاق إليهم.
قلت لهم إنني أحب الكلمات، لكنهم لم يصدّقوني قبل أن أترك الجامعة في عامي الأول من دراسة البيولوجيا لأهرب إلى الشعر وتاريخ الفن.
إيما الأميركية تعرف أنني مهووس بها وأنني أنام أربع ساعات فقط كي أصحو قبل أن تنام. «اذهبي إلى مقهانا، اشربي قهوتي مع قهوتك رغم غيابي. أحبّيني كأنني معك ولا تخجلي من عدم اهتمامك بالكلمات. لا بأس فأنا أحترم المصارف والعاملين فيها خصوصاً في بلدك ورغم كل شيء».
أعيش في رسائل إيما وفي كتاب لشاعر تشبه حياته حياتي، وأحس بأن موتي سيشبه موته. تزيدني حياتي الجديدة في القرية شوقاً إلى إعادة النظر في قرارات كثيرة غيّرت ُ أيامي على أساسها. لن أقاطع بعد الآن قراءة الشعر. ولا أعود إلى الشعر بسبب موت شاعر خذلني قبل أن أغادر بيروت، لكن لأنني كائن شعري، ولأنني رقيق كإبريق زجاجي في محل «أرتيزانا»، ولأنني أستسهل قراءة الشعر في القرية بعدما قررت في نيويورك أن دم الشعر ثقيل. سأكتب الشعر. يكتب الأقوياء التاريخ. فمَن يكتب الشعر إذاً؟
إيما تعيش فيّ رغم الفراق. إيما الآن تجهّز نفسها للنوم. غسلتْ وجهها ومسحتْ عينيها بكريم مرطب، سرّحت شعرها وجلست في السرير. تحب إيما أن تجلس في السرير، وإذا أرادت القراءة لا تغادره. إيما أيضاً شاعرة دون أن تدري، فحين أرادت أن تشتمني قالت إنني مثل السمكة أموت إذا خرجت من ماء التوتر والقلق وإنني أعشق المطر الحزين. وأنا أحب السمك وأقدّر التوتر والقلق وأعشق المطر الحزين، المطر الهادئ الذي ينزل بكبرياء وسمو. سأقرأ لإيما قصيدة لأنها تجهّز نفسها للنوم. إذا ردّت على اتصالي بها ورأيتُ صورتها وغرفتها على شاشة الكومبيوتر، ستؤنبني على ظهوري مجدداً في حياتها. تقول إنها مؤدبة ولا تستطيع تجاهلي حين أتصل بها بعد انفجار المشاكل والخلافات بيننا. لكنها هذه المرة قررتْ الفراق وأظنّها قادرة عليه. وأنا أفارق حياتي الجديدة أيضاً، حياة المنفى إلى حياة فارقتها من قبل وتخلّيت عنها. أعذب نفسي باختبار المنفى مرتين بعدما نفيت نفسي من منفاي. أفارق صورة أمي التي عاشت معي خلال أيام غربتي لأجد أماً أخرى فقدت الصور والكلمات. أفارق أيضاً أمي القديمة. هكذاأعيش «فراقات» ...
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024