تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

ثوّار في الخيال

عدتُ من نيويورك حيث تركتُ بطل روايتي وتعرّفتُ إلى أبطال جدد. سجّلتُ لحظات ضعفهم وضياعهم في مواقف أدهشتني. لكنني سعدت بهم. هم أبطال حقيقيون، أبطال من لحم ودم.
تمشّيتُ وحدي في شوارع لا أعرفها. هكذا حقّقت رغبتي في الضياع، لكنه ضياع جميل أُغمض خلاله عينيّ دون خوف. أستسلم للمغامرة. ثم فاجأتني المدينة بغياب مفاجآتها. لم أتأسف على أحلامي بها، لكنني بحثت كل لحظة عن دهشة. بحثت عن قصة استثنائية، وكنت غارقة في رواية البلجيكية التي أعشق كتاباتها. بين طوكيو ونيويورك أمضيتُ أسبوعاً. من خلال رواية أميلي نوتومب عشت في طوكيو، وأنا أبرع في العيش في الروايات. أهرب إلى روايات الخيال من روايات الحقيقة في أيامي.

تركت بطلي الجديد علي في نيويوك. رافقني في رحلتي من بيروت إلى أميركا. غادر القرية الجنوبية التي حملتُه إليها، وعاد إلى مدينة هاجر إليها منذ أكثر من عشرين عاماً وأدمنها.
ودّعتُ علي في المتحف. بين الفن الياباني القديم ولوحات الأوروبيين في القرن الثامن عشر في متحف ميتروبوليتان قررنا أن نستريح. رأيت علي، لم أكتف بتخيّله. جلس في كرسي إلى جانبي. طلبَ قهوة مثلّجة وطلبتُ قهوة أميركية مرّة. كشف لي ما يحبّ أن أكتبه عنه. قال إنه بعد إيما، البطلة التي جعلته يقع في غرامها، لم يعد يستطيع العيش وحيداً. حمّلني مسؤولية اعتماده عليها وهوسه بها. وهددني بالاختفاء وبأنه لن ينتظر أن أعيدها إليه. لكنني أردته أن ينتظرها وخططتُ لهذا الانتظار وكتبتُه.

علي الذي ابتكرته، تحوّل إلى شخص آخر بعدما زرت أمكنته، وبعدما أصبحت هذه الأمكنة حقيقية في خيالي.
أحبّ علي. إيما أيضاً تحبه. لكنها لم تعترف لي بعد بأنها تريد العودة إليه. حلمتُ بها الليلة الماضية. كانت تلوّن وجهها بالماكياج للمرة الأولى. بدت شفتاها أكبر حجماً وعيناها أكثر جرأة. كانت في حلمي تخون علي رغماً عني. رأيتها ترقص مع ابن صاحب الشركة حيث تعمل، رأيتها في سيارته الفخمة البيضاء. إيما أيضاً خرجت على سيطرتي عليها وثارت عليّ.

أمشي تحت المطر وأفكر فيهما، في إيما وعلي. أبحث عنهما بين الوجوه الغريبة من حولي، في المقهى وفي متجر الألعاب وفي المطعم والحديقة وعلى منصّة عرض الأزياء وفي الفندق. أريد أن تبقى لي إيما واحدة وعلي واحد.
أريد أن أكمل معهما رحلة رواية لم تولد بعد. زيارة أمكنتهما مهمة بالنسبة إليّ: المطعم المغربي الذي احتفلا فيه بعيد ميلاد إيما، المكتبة الكبرى في روكفلر سنتر، المسرح في برودواي حيث اتفقا ألا يغيّرا العالم، المقهى الذي يكرهانه، وحيث يتناولان طعام الفطور لأنه قريب من بيت علي.

عاد علي معي إلى نيويورك حيث تركتُه لأعود إلى بيروت. عاد إلى لوحاته في شقته النيويوركية. في لبنان لم يستطع الرسم، رسم أمه فقط. كتب قصصاً تذكرها من طفولته في البيت الجنوبي كي لا ينساها، وربما كي يرسمها لاحقاً. وفي شقته النيويوركية صوّر الصحف المتراكمة فوق مكتبه والتي تركها له صديقه. عاد إلى أحداث شهر في أميركا والعالم عاشه في روزنامة لبنانية مكتظّة بالموت المجاني والغباء السياسي والاستهتار بالزمن وبالحياة التي يعيشها الإنسان مرة واحدة. وعاد أيضاً إلى مقالات اشتاق إلى قراءتها في قسم الثقافة والفنون من صحيفة «نيويورك تايمز»، وإلى أخبار رياضية يتابعها سريعاً.
تغيّرت الدنيا ولم تتغيّر في عقل بطل روايتي الذي لم يولد رسمياً بعد.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077