تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

كيمياء

رنّ الهاتف ليلاً..
«علي، أنا رانيا أخت سامر».
«أهلاً رانيا، ما الأمر؟».
«أريد أن أدعوك إلى حفلة عشاء في بيتنا. سامر قال إنك باق في البلد».
«نعم سأبقى، ولا أعرف إذا كنت سأعود إلى نيويورك».
«أتركت التعليم في الجامعة؟».
«أنا عاطل عن العمل خلال عام على الأقل».
«هل ستأتي؟».
«السبت المقبل قلت؟ طبعاً. أراك قريباً».

لا تشبه رانيا إيما الأميركية التي أحبّها، لكنها تستمع إليّ باهتمام غريب. تسحبني إلى عينيها، كلّما تكلّمت نظرت مباشرة إلى عينيّ ورفعت حاجبيها وحرّكت شفتيها قليلاً. لا يمكن ألاّ أهتمّ بها ولن أخاف الآن من أن أخطئ في حقّ صديق عمري.. لا بد أنه يشجّع تقرّبي منها. وهي تتودّد إليّ، فما المانع؟ أحب إيما لكنني سأفتح قلبي لمزيد من الحب. لا بأس أريد أن أخطئ، أريد ألاّ أقلق وألاّ أفكّر في العواقب.. تعبت من لطافتي ومن ابتعادي عن الآخرين، تعبت من أن أكون خفيفاً ومن أن يحبّني الجميع بالرغم من عدم اهتمامي بهذا الحب. أريدهم أن يتضايقوا مني وأن يكرهوني. ما يريحني هو أنني عدت لا أشفق على نفسي. أنا سعيد بتعاستي، سعيد بفشلي في حياتي العائلية. أريد أن أفهم فقط كيف عادت أمي لا تتذكّرني، وكيف تصاب بالألزهايمر امرأة مثلها.

«رانيا ذكية جداً» قال سامر عن أخته قبل أن يحاول شرح أسباب امتناعها عن الزواج.
«لا بد أن تفقد أعصابك في بيروت.. ولن تستطيع أن تقاوم تأثير المدينة فيك. أنصحك ألاّ تقود سيارة في شوارعها وألاّ تحاول أن تفهم السبب الذي أتى بك إلى هنا لكنك أتيت، تركت كل شيء في نيويورك وجئت إلى هنا».
ثم سكتت رانيا. كانت أجواء حفلة العشاء هادئة جداً. وقد بالغت أخت صديقي في التعبير عن اهتمامها بي.. وأنا تلقّفت هذا الاهتمام بغموض أجرّبه للمرة الأولى.
«أتيت لأرى أمي ولأعوّض عن غيابي عنها.. وجدت نفسي مضطرّاً للمجيء إلى هنا. لكنني هربت من بيروت. حملت أمي إلى القرية».

«لكنك هنا الآن، معنا.. وهذا ما يهمّ» أحسست بأن رانيا قريبة مني. وكعادتي حطّمت نفسي وعرّيتها أمام اهتمامها بي. هذا ما أفعله دوماً في مواقف مماثلة. قلت لرانيا: «لست رساماً بالرغم من أنني أرسم منذ كنت في العاشرة. لست مفكّراً بالرغم من أنني شرحت كتب فكر لكثيرين وحفظت بعضها كي أجهّز نفسي لدور المعلم الذي انتظرته ولم ينتظرني. لست مرشداً لتلاميذي الذين يرون فشلي جميلاً ويشفقون عليّ بدلاً من أن يرافق احترامهم لي قليل من الرهبة ورغبة في أن يقلّدوني. لست أباً أو حبيباً أو زوجاً. ولست ابناً يتّكل عليه. تأخّرت في الاعتذار من أمي، تأخّرت في الاعتراف بأنني حين هربت من بيروت إلى نيويورك. هربت منها. وقد اعتذرت لها لكنها لم تسمعني أو سمعتني ثم نسيت ما قلته لها. وهي تعرف أن كلامي قليل وأنني أحتاج أحياناً إلى أسلحة لأخرجه مني تحت ضغط التهديد بالفشل وبمشاعر أخرى. رانيا ما يجعلني أقول لك ما أقوله هو أنني لن أصمت بعد اليوم ولن أحلّل وأنتظر و«أتذاكى». سأقول إني أحسّ بالوحدة للمرة الأولى منذ ولدت قبل واحد وأربعين عاماً. ولا تقولي إنني أتسرّع، لا وقت لديّ، أريد أن أصدم أمي بخبر يوقظها من غيبوبتها. ألا يفعلون ذلك في الأفلام؟ لا تردّي عليّ الآن. فلنمشِ بين النفايات البيروتية القبيحة وحدائقها الممسوخة ولنشمّ الهواء الملوّث بأطماع الأبراج السكنية وأبراج الأموال، لنمش بصمت ونفكّر في ما ينتظره الغد منّا.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077