تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

«الإيميل الأخير»

قلتُ لإيما إننا نكبر سريعاً. ما زلتُ طفلاً، لكن دورة الحياة غلبتني. لم أفكر في احتمال أن تغيب أمي. كنت أعوّد نفسي على التخلّي عن مزاجيتي وطفولتي في حضرتها. تركتُها الآن وقررت أن أذهب في جولة جنوبية، أذهب إلى مدينة صور ربما في سيارة استأجرتها البارحة. كتبت إيميلاً لإيما وتذكرت أن أسألها: مَن يقدر على قتل الإحساس بالذنب؟ مَن يستطيع أن يعيش في قصيدة؟

وهنا في بلدي الأصلي، هنا على شاطئ مدينة صور الجنوبية أحب أن أسأل الناس السعداء: أين تعيشون كي تستطيعوا العيش؟ أين نفيتم أنفسكم بسعادة واعتبرتم المنفى مصدر إلهام وإبداع؟

 لن تردّ إيما على رسالتي. أعرف ذلك، لكنني لا أعرف ألاّ أكتب إليها. لا أحس هنا بأنني أمتلك المكان والهواء. لا أحس بأنني ابن المكان. هناك عند إيما، في نيويورك، أحسست بأنني قوي رغم غربتي. مشيتُ على البرد، دستُه. هناك أدركت حجم جهلي وتأملت الكلمات التي لا أعرفها. هناك مشيتُ بين البنايات الشاهقة والأبراج كأنني مزروع في الأرض. في قريتي التي عدت إليها، لم أتكلّم مع أحد. لم أحاول اليوم أن أوقظ أمي أو أنادي الممرضة.

قلت لإيما إنني بعد إيميل واحد أنتهي من مطاردتها ومن البحث في الوقت عن وقت لي. أريد أن أمنح نفسي لأمي، أن أمنح نفسي للآخرين. وعدت إيما بألا أتمسّك بأنانيتي. لكنني لن أستطيع التخلّص من الإحساس بالذنب، فإذا فعلت، ما الذي سيملأ الفراغ فيّ؟

الشمس تمطر اليوم في صُوْر. أرسلت لإيما رسالة من هاتفي إلى هاتفها: كأنك معي الآن. الطقس رائع. إلم أقل لك إننا محظوظان وإن الربيع لن يخذلنا؟

رسالة إلكترونية لم ترسلها إيما إلى علي
حاولت أن أعلّق نفسي بكتب التاريخ، لكنني انزلقتُ على أغلفتها وبقيت في الخارج. أنا الآن خارج كل شيء، وما زلت أصرّ على أنني لا أحب قراءة الشعر. وسط تفاصيل يومي في العمل بين مكالمات أطمئن عبرها عن الولدين وبين خيبات يومية، أحمل صورتك إلى شفتيّ.

نزلت إلى المطعم الإيطالي حيث ينتظرُك كرسيك. ذلك اليوم الذي أمضيناه في المتحف، لم أصدّق أنني وصلت إلى عالمك. وبعد أيام من لقائنا الأول تأكدت من أنني في حياتي نجحت في اختبار الحظ الأقسى. عثرت عليك ونجحت في التسلّل إلى صمتك وخجلك.

أفكر باللغة الإنكليزية وتفكر أنت باللغة العربية. لكنني قريبة منك وأعرفك جيداً ويخيّل لي أحياناً أنني ولدت لأعرفك. وبالرغم من أنني لا أعقّد الحياة مثلما تفعل أنت، لكنني أفهمك. في بداية القصّة عندما لم أصدّق قصص الحرب في بلدك العجيب، اشتريت كتباً عن لبنان. لكنني لم أخبرك ولم أفهمها. طلبت منك أن ترسم لي خرائط وتخط رسوماً وأن تشرح لي التاريخ والجغرافيا في بلد لم أكن قد سمعت به قبل لقائك. بحثت عن الدهشة في عينيك كلّما أخبرتك عما يدلّ على اهتمامي بتفاصيل مرتبطة بالواقع السياسي في بلدك.  ورغم فراقنا ما زلت أقرأ وأتابع مقالات عن الشرق الأوسط وأخرى فلسفية كأنني أريد اختراق عالمك. لكنني لم أجد بعد لغة الصمت التي تتقنها، ولن أجدها. حين أشتاق إليك أفكر في أنني أستطيع أن أكون لك أماً أيضاً، أن أكون لك ذاكرة الحاضر والغد بدلاً من ذاكرة أمك المفقودة.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077