تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

«بنفسج»

تحاصرني عناوين الكتب التي لم أقرأها. هل أستقيل من حياتي الموزّعة بين عملي وولديّ لأجل القراءة؟ سأفعل ذلك يوماً ما. لن أتخلّى عن واجباتي تجاه ولديّ طبعاً. لكنني أحب أن أجد في القراءة مبرراً للحياة ببدايتها ونهايتها. القراءة فرصة للضياع في قصص زملائنا في جهل البداية والنهاية. طالما فكرت في النهاية، وشغلتني سيناريوهات عديدة لنهايات عديدة فكرت فيها وحلمت بها منذ كنت في الثامنة من عمري. وأمام الجدار الأسود الذي رأيته في مخيّلتي وأحسست به يلامس رأسي، كنت أركض إلى أمي في غرفتها لأكمل إلى جانبها ما تبقّى من الليل. أحلم بأنني أقضم سواده، أقضمه ليظهر نور النهار خلف قضمتي. هذا الخوف تؤجله المسؤوليات، وتخفيه ضحكات الولدين اللذين يمثلان استمرارالحياة بالتشبّث بها.

مسرحية «بنفسج» التي عُرضت أخيراً في بيروت، أعادت بناء الجدار الأسود على قلبي وفي عينيّ. بكيت حين كان بعض الحضور يضحك. بكيت أيضاً لأنهم ضحكوا. اختنقت. واجهنا مخرج المسرحية عصام بوخالد بما هربنا منذ الطفولة من مواجهته، واجهنا بالنهاية التي لا تنتهي. يمكن أن نفكر كل يوم في الموت المجاني العبثي في العراق وفلسطين، والموت المجاني والموسمي في لبنان: من موسم تصفية الحسابات إلى موسم التحضير للانتخابات إلى موسم طمس الحقائق وحياكة المؤمرات. لكننا لا نتجرأ على أن نصنع شخصاً ميتاً، أن نكتبه ونفكر فيه، امرأة بملامح وأعضاء وقصة. عصام بوخالد صنع تلك المرأة من دم ولحم وقماش، وأعارها رأس الممثلة برناديت حديب وجسمها المخفي تحت الأقمشة وصوتها وليونة حركاتها حتى صدقنا نهاية المرأة وما بعد نهايتها. نتعرّف في «بنفسج» إلى نهايتين «سخيفتين» عبثيتين لقصص حياتين تشبهان كل حياة. لكن بعيداً من توقيت النهاية، مبكرة كانت أم متأخرة، هل فعلاً يهمّ سيناريو النهاية؟

 الأم التي أبدعت برناديت حديب في أداء دورها في «بنفسج» انتهت (مع لحظة بداية المسرحية) بانفجار، والشاب الذي رافقها في مرحلة ما بعد النهاية وأدى دوره سعيد سرحان، دفع حياته ثمن كلمة واحدة لفظها خلال معركة من معارك السير. تذكرتُ الفتاة الألمانية في فيلم المخرج التركي الألماني فاتح أكين «حافة الجنّة» التي انتهت على يدي طفل تركي في الشارع سرق حقيبتها وسحب منها مسدساً كانت صديقتها التركية قد طلبت منها أن تخفيه قبل أن تكتشفه الشرطة. بطلتا فاتح أكين اللتان تذكرتهما في «حافة الجنة» «تحصلان على» نهايتين شبه مضحكتين من فرط عبثيتهما.  

ماذا تقول لنا النهايات؟ ماذا نقول لها؟ لا نستطيع أن نهرب من إحداها أو أن نختار إحداها. هل تقول لناأن نحتفل بالحياة؟ ليس بالضرورة، لكننا نحتفل بها. كل لحظة نحتفل بها، بتناسي النهايات، بأن نصحب الأولاد للاحتفال بعيد ميلاد أحد أصدقائهم، بفيلم خفيف لوودي ألن، بكتاب، بالعمل، بكتاب مرة أخرى، وبمشاهدة مسرحية مثل «بنفسج» مرتين.


المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077