تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

طَعم ناقص

طالما فضّلتُ قراءة كتب السيرة. أبحث عن حياتي في حيوات آخرين، عن مواقف مشتركة، عن مشاهد عشت مثلها وربما أعيش مثلها.
أبحث عن التفاصيل التي لا تتلاءم مع عظمة حياة العظماء بين الذين أقرأ سيرهم. أبحث عن نوافذ للهفوات. أقرأ حيوات هؤلاء الذين يشبهونني لأنهم حقيقيون مثلي، لأنني لم أتخيلهم. كانوا حقيقيين وأحبوا وظلموا وأساؤوا التقدير وأبدعوا في الفن أو الكتابة أو السياسة.

أحب أن أقرأ قصص المنفيين مثلي. اخترت المنفى. لا أستطيع أن أقول إنني أُجبرت عليه. لكنني لجأت  إلى نيويورك كي ألجأ إلى نفسي، كي أعرف مَن أنا وما أريد أن أفعله، كي أفهم تاريخي الشخصي، تاريخ عائلتي، وأواجه فراغ الفراغ الذي كان على والدي أن يتركه.

 لم أعرف أبي، ولم تسمح لي أمي بأن أحتاج إلى أب. أعطاني أبي اسمي وغاب. هذا ما أعرفه عنه. حفظت قصصاً كثيرة سردتْها أمي عن أبي، لكنني لم أكن بطلاً في أي منها.

أحبني أبي الذي لم أعرفه، ولم أسأل عنه حين أدركت أنه ليس هنا.

كنا في الصالون، رأسي على فخذيْ أمي التي تشدّ بأصابعها على جبهتي. جلست أخواتي قبالة التلفزيون. تكاد أختي زينة تلصق وجهها الشاشة. ما زلت أتذكر رائحة الياسمين في شعر زينة، والثوب الذي ارتدته أختي رندة تلك الليلة. أتذكر دوماً الروائح والألوان.

تلك الليلة كنت سعيداً بصوت المطر. أردت ألا تهدأ العاصفة وألا يتوقف جنون الطبيعة.
كان رائعاً ذلك المشهد. العتمة تلّف غرفة الصالون ثم تخترقها أضواء التلفزيون. أطبقت سكينة أرواحنا على الكلمات كلهّا. صَمَتنا.

 كان رائعاً ذلك المشهد. لم أفكر في أن بطلاً ينقصه. لم أكن قد فكرت في أبي حتى تلك الليلة. كأنني جئت من أمي وحدها. طعم سعادتي تلك الليلة كان غريباً. كان طعماً ناقصاً. تلك الليلة لم أستطع النوم. تذكرته وكنت قد بدأت أن أخجل من الهروب إلى أمي في ليالي الرعد والبرق.

«أمي اشتري لي بيانو».

ضحكت أمي. «مثل بيانو برناديت؟» سألتني كأنها تريد أن تقول لي: «يا علي أتظن نفسك فرنسياً؟» ثم أضافت: أم تريد أن تبرر صمتك الذي يخيفني بالعزف على البيانو؟... علي ما زلت أكلّمك».

«وأنا أحبك، أمي».

تخلّيت عن حياتي الماضية كلّها حين تخلّيت عنها وسافرت. كانت أمي حياتي التي تركتها إلى حياة جديدة ووحدة من نوع آخر، وحدة أكثر نضجاً ووجعاً وعمقاً.
هوسي بقراءة كتب السيرة دفعني إلى أن أكتب سيرتي. لا شيء مهم يحدث في حياتي. ليس يومي مميزاً فعلاً. لكنني أكتب كل يوم.
أدوّن ما جرى في العالم وما يجري. أصف الظروف التي أعيشها والأحداث العالمية التي أسمع عنها وأقرأها.

اليوم يُسحق الأطفال في غزة. لست في نيويورك. كيف يمكن أن تؤثر حقيقة مثل هذه على الطعم المرّ في حلقي؟ أحس بالعجز هنا وهناك، في قرية المالكية في الجنوب اللبناني أو في إحدى رموز الحلم الأميركي الذي تحوّل كابوساً. ويمكن في نيويورك أن أتذرّع بأنني بعيد وأن صوتي لن يُسمع. لكنني الآن في جنوب لبنان قريب جداً، قريب إلى حد أنني لا أستطيع أن أرى بوضوح ما تنقله الشاشة. أخرج إلى البستان.

كل هذا الموت قريب جداً. أدخل إلى أمي النائمة منذ أيام. أنام. البارحة حلمت بأنني مع أمي في بغداد. غداً أتصل بالطبيب. يجب أن تتكلّم أمي، أن تقول لي أي شيء. لا يمكن أن تعاقبني بأن تنساني بعدما عدت إليها. أرشّ العطر على كفها. مازالت أمي نائمة.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079