تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

سرّ اللوحة

منذ ٣٠ عاماً علّقت أمي اللوحة في بيتنا هذا الذي عدت إليه من أميركا. في الطبقة السفلية من منزلنا في القرية، منزل العائلة عرضت أمي أعمالها اليدوية من شراشف وأغطية للطاولات، وعلّقت لوحات اختارتها بعناية من سوق الأثاث في منطقة البسطة في بيروت. في مدخل الصالون الرئيسي كنت أتأمل الصبية في فستانها الأبيض في لوحة، عرفت لاحقاً حين عشت بين صفحات كتب الفن العالمي، أنها باسم «أمل».
قالت أمي إن اللوحة تلك ليست سوى غطاء علبة شوكولا ضخمة من الكرتون السميك وأنها أرسلتها مع أبي سعيد الذي اختار لها الإطار المناسب، فعلّقتْها هناك على الجدار حيث طالما وقفتُ أتأملها خلال مرحلة طويلة من مراهقتي القصيرة. تحمل صبية اللوحة في الفستان الأبيض الطويل غصن زيتون وتجلس على ما تبقّى من جدار مفتوح على هضبة خلفها أفق ملوّن بألوان الغروب، على الهضبة تنتشر بقايا مبنى فقد هويته، وهناك خلف كتف الفتاة، إذا تأملتُ اللوحة جيداً، وجدتُ القبور المرسومة كأنها سرّ اللوحة. قررت أنها فتاة أحلامي تلك الفتاة في اللوحة بعينيها الصامتتين ولونها الباهت.

ورثت من أمي حب الرسم. أمي القوية التي ضايقتني آراؤها التقليدية بالرغم من أنها ليست امرأة تقليدية، هي فنانة تجيد استعمال يديها في صناعة عمل فني. وتستطيع أن تنسج علاقة بينها وبين لوحة.
أمي الفنانة خافت من «إحساسي المرهف» كما قالت لي، ومن اختياري هوايات اعتبرتها «هوايات الصبايا». لكنها كانت تسعد بمحاولاتي أن أرسم لوحة، حين كنت أغيب مدة طويلة في البساتين في القرية بين أشجارها وشمسها لأرسم لوحتي. كان أبناء جيلي من أولاد أعمامي وعمّاتي يلعبون لعبة الحرب.
كانوا في بيروت يتحلّقون حول سيد الحي بين أصدقاء الطفولة الذين انخرطوا في الأحزاب المتقاتلة.

حين تبدأ المعارك ومنذ الرصاصة الأولى تركض زوجة عمي بحثاً عن ولديها، تزور مكاتب الأحزاب، تدخل الجوامع، تبحث بين جثث المقاتلين من الحزب الأخضر الذين قتلوا الليلة الماضية ولم يسأل عنهم أحد.
كنت أفكر في هؤلاء، في أهلهم في القرية الذين لم يعرفوا بعد الثمن الذي دفعوه. لا أفهم الألعاب السياسية قلت لأمي التي أسعدها كلامي هذا. «لكنه يحبّ البنات» كانت تقول. رأيته ينظر إلى هبة ابنة محمود ذلك اليوم. «علي، ألا تعجبك هبة بنت محمود شعبان؟»، سألتني أمي أمام أختي زينة. لم أرد.

وحين لا أردّ تقول إن الحرب أثرت فيّ وإنني لا بد أن أحكي أحلامي للشيخ نور الدين، فقد يريحني تفسيره أو يبعد خوفي منها. «لكنني لست خائفاً منها يا أمي».أزور الشيخ نور الدين، العالِم في قريتنا، وعميد عائلتنا. أمي تقول إنه تنبأ بالحرب وبأن مدتها ستطول. وأنا كنت أعدّ المرات التي ذكر فيها الرقم سبعة خلال تفسيره حلمي. يحكي عن ليال سبع وسنوات سبع ووديان سبعة وأحرف سبعة.سبع ليال صامتة أمضيتها بالقرب من أمي في فراشها. تفتح عينيها، تنظر إليّ، فلا أعرف إذا عرفتني، أطلب منها أن تتمشّى معي كي تحرّك جسمها. أجرّها أنا وأم عبدالله، ربما لم تسمعنا. نجبرها على أن تخطو خطواتها. ثم نعود بها إلى السرير.
أحب أن أمشّط شعرها الذي لم يفقد جماله. ربما لأنها كانت تهتم به كثيراً. وكنت أشمّ في غرفتها روائح العطور والزيوت التي تشتريها سراً. فكيف تعتني بنفسها أرملة شابة؟ ولمَ تعتني بنفسها ولمَن؟ يسأل مَن يكرهون أنفسهم قبل أن يكرهوا الآخرين. أما أمي، فتحب نفسها. وذلك أجمل ما فيها.

تنبأ الشيخ نور الدين بالحرب وبأن مدتها ستطول. ذكر سبع مرات الرقم سبعة. حكى عن ليال سبع وسنوات سبع ووديان سبعة وأحرف سبعة وأيادٍ سبع وآبار سبع وأسرار سبعة...

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077