تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

نصف رواية

لماذا لا تضحكين؟ سألني مَن سيصبح بطلَ روايتي. تعود إليّ كلماته. أردّدها. فتسأل زميلتي كلوي: «هل قلتِ شيئاً؟». منذ قررت أنه سيكون بطلي، أرى كلامه في منامي ولا أسمعه. أراه مكتوباً في الهواء. أرى حروفاً معلّقة، حروفاً تجرّ حروفاً.

كُتب الكثير عن بطلي. أتخيّل أنني أقف قبالته ثم أقرّب وجهي من وجهه. عيناه تنظران دوماً إلى النقطة الأبعد كأنهما تخططان لمشروع مهم أو لتنفيذ جريمة. قرأت عنه في كتب عديدة ورأيته في أفلام فيديو صُوّرت في الثمانينات. ما زال وسيماً وما زال يعشق الموسيقى. أحتفظ بصورته التي نُشرت في إحدى الصحف. تقف خلفه في الصورة جدران رمادية قاسية حُفرت عليها أبيات شعرية بالإنكليزية.
لن أكتب نفسي مرة أخرى. سأكتبه. أراه يمشي تحت المطر في مشهد من مشاهد أفلامي المفضّلة. أراه في مدينته المفضّلة حيث رأيت وودي ألن يعزف الكلارينت ولم أستطع أن أسأله عن سبب اختيار ذلك المصير البائس لسكارليت في فيلم «نقطة الفوز».

غادر بطل روايتي نيويورك. عرفت أنه هنا ومشيتُ للقائه. تحدّيت الطقس البارد، تسلّقت جبالاً وقطعت ودياناً كي أراه.
أَحبَّ بطل روايتي التي لم أكتبها بعد، زوجتَه السابقة وتزوجها وانفصل عنها قبل أن يصبح في الثلاثين. ثم انصرف إلى الكتابة قبل أن يكتشف ساقيه.
بطلي أنيق. تعجبني قمصانه الزرقاء وستراته الكحلية. أضفت تفصيل أناقته إلى أوراقي خلال استراحة في مقهى في الحازمية قبل أن أواصل المشي. أمشي لأركز على التفكير فيه. وأبحث عنه في الهواء وبين البيوت وعلى تراب الأراضي التي قطعتها سيراً على قدميّ. تركتُ خلفي كل شيء، تركت في البيت لوحاتي وأوراقي ونصف رواية لم أستطع إكمالها لأنني كتبتها بنصف روحي ونصف جسمي ونصف عقلي. فانطلقتُ في رحلتي هذه بحثاً عن أنصافي الأخرى، وكي يكون لي بطل يليق بتخيّلاتي وبتوقي إلى كتابة روايتي الفضلى.

من أين تأتي الأسئلة؟ من فضولي أم خوفي أم غياب الثقة بنفسي؟ المشي دواء لهذه الأمراض كلّها.
محطتي الأولى كانت في بحمدون حيث نمت في بيت صديقتي ليلى. ثم انطلقتُ صباحاً دون أن أودّعها وقبل أن تسارع إلى تحضير الفطور والبحث في صحيفة الصباح عن أخبار محبطة تقرأها لي بصوت عال.
قالوا لي إن بطلي يمشي من جنوب لبنان وإنه متجه نحو مدينة زحلة حيث سيتوقف خلال أيام. المشي يشرّح الأسئلة ويؤجل الإجابة عنها. المشي يقرّبني من فهم مَن قررتُ أنه بطل روايتي الجديدة. أريد قبل أن أكتبه أن أفهم تصرّفاته دون أن أفهم أسبابها بالضرورة.

منذ عامين أحاول أن أعود إلى الكتابة ثم أرفض أبطالي بعد أن تظهر ملامحهم في أوراقي. بحثتُ عن بطل يسهل الوقوع في غرامه من دون أن أقع أنا في غرامه. تعرّفتُ إليه خلال حفلة عشاء في منزل كلوي زميلتي في الكونسرفاتوار. وكنت أعرف أنه يدرّس في الجامعة حين لا يشارك في ماراثونات أو سباقات عالمية يسافر بحثاً عنها.

لا أصدّق مغامرتي. أمشي كي أختبر ما يحسّ به بطلي الجديد. ربما يحتاج إلى الركض خلف معنى لحياته لم يجده في التعليم والكتابة. ربما يركض هرباً من النهاية. وأنا لمَ أركض؟ لمَ أمشي الآن؟ أستكشف صمتي بين أصوات أمشي في قلبها، أصوات السيارات والحيوانات ونتف كلمات تخرج من بيوت بعيدة أو من أفواه لا أراها لكنها حتماً ليست بعيدة عني. لن أعود قبل أن أخبر النجوم أسراري.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077