تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

خارج الدنيا الواسعة

لم يهمّني أن المرأة التي أحببتُها لم تعرف أن تلفظ اسمي. لم يهمّني اسمي. أنا ألفظ اسمها كأنني أتنفس، ألفظه بسلاسة ومتعة. «إيما» أقول. «أَلي» نادتني. أسعدني أنها لم تستطع لفظ اسمي الحقيقي، اسمي الأصلي، وأنها غيّرته. أشتاق إلى معطفها الأسود القصير الذي يضيق عند الخصر. أشتاق إلى أشيائها الصغيرة أكثر من شوقي إليها. أفتقد حيويتها التي تنضمّ فيها إلى سكينة غريبة. ما زالت إيما تحيّرني. تصرّفها الأخير معي جعلني أتراجع عن ثقتي بأنني أعرفها أو أنني عرفتها وانتهيت من معرفتها، أنني درستها وحفظتها وأصبحت في أمان.

قذفتني إلى خارج حياتها بعدما ظننتُني حصلت عليها وانتهيت. شعرت بأنني تلميذ غبي، تلميذ وثق بقدراته المحدودة ولم يكن على قدر مسؤولية الامتحان. أفكر فيها كل لحظة. كلما تناولت الصحيفة لأقرأها أو دوّنت لأمي كلمات أحبها أن تسمعها في غيبوبتها. «أمي هل تسمعينني؟». طلبت من أم عبد الله أن تقصّ لها شعرها وأظفارها وأن تُلبسَها العباءة الجديدة التي اشتريتها لها. أمي طفلتي التي لم يتسنَّ لي الاهتمام بها قبل أن تجهّز نفسها  للعودة إلى رحم أمها، أمنا كلّنا.

باراك حسين أوباما أصبح رئيساً للولايات المتحدة. لم أستطع ألا أبكي. من قرية في جنوب لبنان ألوّح بيدي إلى شقّتي في نيويورك. ألوّح بيدي إلى إيما. تستطيعين الآن يا حبيبتي أن تتوقفي عن الخجل من أنك أميركية، كما قلتِ لي ذلك اليوم، وألا تقولي إنك بريطانية إذا قررت العودة إلى هنا.

إلى متى سأظلّ أتكلّم مع نفسي؟ «أمي إصحي، أمي لقد عدتُ إليك. تأخرتُ لكنني عدت. يجب أن تعرفي أنني عدت. يجب أن تعرفيني. أمي أنا علي، علي ابن ابراهيم ناصر. وهذا شَعري أو ما تبقّى منه. شمّي رائحتي ستعرفينها».
كل مرة تدخل عليّ أم عبد الله لتقول: «أستاذ علي، لا تعذب نفسك اليوم. ما يهم أنها معنا وأن صحتها جيدة. دكتورة أمينة قالت إن قلبها أقوى من قلبي وقلبك». لا تقطعوا أشجار الزيتون أصرخ بالمسؤول عن الاهتمام بالحديقة خلف البيت.

يبيعون شجرة الزيتون بمئة دولار لتزيّن مداخل المطاعم والنوادي الليلية في وسط بيروت حيث يفرك عامل التنظيف إشارة السير في حين تتراكم النفايات على جوانب الطرق في شوارع بيروتية أخرى.
هل يمكن أن تكون إيما قد عادت وحدها لزيارة بعلبك وبيت الدين وصور؟...

أعيش أيامي الناقصة في «روزنامة» أمي. ألصق خدي بخدّها، أستمع إلى دقات قلبها. حملتُ التلفزيون إلى غرفتها، لأستمع معها إلى أصوات الحياة في أماكن أخرى، في مدن تشبه المدن. يوجعني الشعور بأنني لا أحب قريتي وأحقد على أهلها بالرغم من أنني لا أعرف معظمهم. لكنني ألومهم على الحرب وما بعدها.

هل يمكن أن أعود الفصل المقبل إلى نيويورك؟ أضع الكومبيوتر في حضني. سألت الشباب عند الحلاق بدر عن مقهى للانترنت. تبرّع أحدهم بعدما عرّفني عن نفسه بأن أخذني إلى صديقه ابن الحاج كمال والذي يفهم هذه الأمور كلّها. ذهبتُ معه. قررت أن أكسر عزلتي من أجل الخروج إلى الدنيا الواسعة التي كنت دوماً ضيفها رغم وحدتي القديمة. أردت أيضاً أن أتعرّف إلى شباب قرية يقولون إنها قريتي. أنا «علي الأميركي» ابن الحاجة أم علي التي نسيتْ اسمها.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077