تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

عندما يكون الأب الحاضر الغائب...

«البابا علّمني كيف أستعمل السكايب»،«ذهبنا أنا وبابا للتسوّق»، «نلعب أنا وأخوتي مع البابا كرة القدم كل عطلة أسبوع»، «البابا مسافر ولكن عندما يأتي في إجازة نقوم بالكثير من الأمور الطريفة»... حوارات يتبادلها التلامذة عن مشاركة آبائهم في كثير من النشاطات التي يقومون بها.
وفي المقابل هناك تلامذة نادرًا ما يذكرون آباءهم وفي غالب الأحيان تكاد صورة أن تكون الأب غائبة عن حياتهم.
لا يختلف اثنان على أن صورة الأب النمطية اختلفت عما كانت عليه في الماضي، خصوصًا عند جيل الشباب من الآباء الذي يدرك أن الأبوة لا تعني التسلّط وفرض القانون المنزلي بالقوة وإرهاب الأبناء وتوفير الاحتياجات المادية للعائلة.
وإنما للأب دور رئيسي في تربية الأبناء وتطوّرهم النفسي والفكري، ويكون ذلك من خلال حضوره المعنوي القوي في وعي الأبناء وفي لاوعيهم على حد سواء، على أن يشكّل هذا الحضور مصدرًا للسعادة وشعورًا بالأمان والثقة بالنفس.
ولكن يحدث أحيانًا أن يضطر الأب للسفر خارج البلاد فيكون حضوره المادي مقتصراً على الإجازات السنوية، فهل في إمكان هذا الأب الغائب أن يبقى حاضرًا في حياة أبنائه؟ وماذا عن الأب الذي رغم وجوده اليومي مع أبنائه فإنه غائب؟ وما دور الأم في تعزيز حضور الأب في حياة أبنائها وإن كان مسافرًا؟
«
لها» حملت هذه الأسئلة إلى الإختصاصية في علم نفس الطفل كالين عازار التي أجابت عنها وعن غيرها.


في البداية تقول عازار: «هناك ثلاثة نماذج من الآباء في عصرنا الحاضر. الأب الذي يضطر للسفر للعمل خارج البلاد، والأب الذي يمضي الأسبوع خارج المدينة والأب المشغول دائمًا ولا يجد الوقت لمتابعة أبنائه تربويًا.
لذا من الضروري أن يكون الوالدان متكاملين في تربيتهما. وفي المقابل ليس سهلاً على الأم قيامها، في حالة سفر الزوج، بدور مزدوج فهي من ناحية تحاول تعويض غياب الأب مما يضطرها أحيانًا لأن تكون شديدة مع أبنائها، وفي الوقت نفسه عليها أن تمنحهم الكثير من الحنان والعاطفة ومتابعة كل شؤونهم من ألفها إلى يائها، فضلاً عن أنها تعمل على تثبيت صورة الأب الغائب ماديًا في لا وعي الأبناء.

- أي صورة على الأم تثبيتها في ذهن أبنائها؟
أكيد أعني الصورة الإيجابية، لا تلك التي تجعل من الأب مصدر سلطة ظالمة، فهناك الكثير من الأمهات يهددن أبناءهن بعقاب الأب سواء كان مسافرًا أم لا.
كأن تقول الأم لابنها إذا تصرف في شكل سيء» سأخبر البابا عندما يعود من السفر وبالتأكيد سيعاقبك» فترتبط صورة الأب الغائب عند الإبن بالعقاب والقسوة، مما يجعل العلاقة بينهما قائمة على الخوف، وبالتالي فإن الحوار يكون صعبًا بينهما.
 وفي المقابل قد تساهم الأم وعن غير قصد في جعل صورة الأب ضعيفة وغالبًا ما يكون على الهامش في كل ما يتعلّق بتربية الأبناء وعدم السماح له بإبداء رأيه إذا ما اتخذت الأم قرارًا مثلاً عندما يسمح الأب لابنه أو ابنته باللعب قبل الدرس، فيما تمنعهما الأم فتكون هي صاحبة القرار النهائي وعبارة: «لكن البابا سمح لنا» التي ترد عليها الأم «مهما يكن فأنا أعرف مصلحتكما أكثر منه»، هذه العبارة تجعل الأب لا حول ولا قوة له وبالتالي لا يعود الأبناء يشعرون بضرورة مشاركته همومهم ومشكلاتهم أو حتى نشاطاتهم.
غير أن هذا لا ينفي وجود الكثير من الأمّهات اللواتي يساهمن في جعل صورة الأب الإيجابية حاضرة في ذهن الأبناء، ففي كل قرار يتخذنه يشرن إلى دور الوالد في اتخاذه.

- ولكن أحيانًا عندما يعود الأب من السفر يتحوّل البيت إلى فوضى وتخرق القوانين التي وضعتها الأم في غيابه. ألا يؤدي هذا إلى اهتزاز صورة الأم؟
من الطبيعي أن تكون الأم قد وضعت قوانين منزلية وطقوسًا يوميًا يلتزم فيها الأبناء، وغالبًا ما تخرق هذه القوانين عندما يكون الأب في إجازة، فمثلاً قد يسمح للطفل بالسهر ليكون مع والده، ونسمع الأب يقول لزوجته «لا بأس في القليل من الفوضى فأنا مشتاق إليه دعينا نستمتع بالوقت»، هذه العبارة مقبولة إلى حد ما إذا ما دارت بين الأب والأم من دون حضور الطفل على أن يشرح الأب لطفله أنهما اخترقا القاعدة لفترة قصيرة وأنه والماما متوافقان على هذه المسألة.
لذا على الأم أن تستوعب تدليل الأب لأبنائه أثناء وجوده معهم وألا تحوّل متعة اللقاء إلى صراع بينهما. المهم نوعية الوقت الذي يمضيه الوالد مع أبنائه، أن يشرح لهم أسباب غيابه وأنه حاضر للاستماع إلى مشكلاتهم ومعرفة ما يفرحهم وما يحزنهم، ومشاركتهم همومهم لا سيما إذا كانوا في سن المراهقة.
إذ لا يجوز أن يمضي إجازته في النوم أو القيام بزيارات الأقارب ويهمل الأم والأبناء. ولكن هذا لا يعني أن يمضي كل وقته مع أبنائه بل عليه أيضًا أن يخصص وقتًا لزوجته ويشير إلى ذلك لأبنائه. المهم ألا يغض الأب النظر عن السلوك الخطأ في تصرّف الإبن أو الإبنة.

 

- كيف يمكن الأب متابعة أولاده وهومسافر، وإذا فرضنا أنهم يتحادثون عبر الإنترنت أو السكايب، فهل هذا يعوّض غيابه المادي؟
نموذج الأب المسافر، لم يعد كما كان عليه قبلا، فوسائل الاتصال لا سيما السكايب Skype يتيح لهذا الأب الغائب ماديًا عن أبنائه أن يكون حاضرًا في يومياتهم ومن دون تكلفة. وفي إمكانه متابعة شؤونهم وأمورهم الخاصة يوميًا، من خلال محادثتهم صوتًا وصورة، لذا لم تعد هناك حجة للآباء بالقول لا نستطيع أن نشارك أبناءنا همومهم إذ يكفي محادثتهم لـ 15 دقيقة في اليوم يخصصها الأب المسافر ليسمع من أبنائه همومهم ومشكلاتهم، حتى يشعر هؤلاء الأبناء بحضوره القوي في حياتهم.
ولكن هذا التواصل ينبغي أن يكون قبل سفر الأب، أي أن يكون هناك أساس بنيت عليه العلاقة بين الإبن وأبيه، أي الحوار موجود.
فعندما يشتاق الطفل إلى أبيه وتمر فترة طويلة لم يره فيها أو لم يتواصل معه، قد لا يستطيع التكلم معه لأنه لا يعرف ماذا يخبره، ولكن عندما يكون هناك في الأساس حوار يصبح التواصل أسهل بكثير على الإثنين.
المشكلة أن الفترة التي يمضيها الأب مع أولاده قصيرة جدًا مقارنه بفترة غيابه، لذا يحاول تكريس الإجازة لهم، فيدللهم كثيرًا ويحضر لهم الهدايا لأنه يريد ألا يشعر بالتقصير تجاههم، مما قد يسبب نوعًا من الاستياء بين الأم والأب، فهي لا تريده أن يتصرف على هذا النحو، وهو يشعر بأنه ضيف، مما يوجد مشكلة بالنسبة إلى صورته وكل ما يتعلّق بالسلطة الأبوية.
ولكن إذا كان خلال وجوده خارج البلاد يتابع أمورهم ويحادثهم في شكل دائم، ويتحدث إلى ابنه مباشرة عندما تحدث مشكلة، يشعر الأولاد بأن عليهم أن يحسبوا حساب والدهم وأنه موجود.

- ولكن هل يكفي أن يراه الإبن على الشاشة حتى تتوطد العلاقة بينهما؟
نوعية الحوار لها دور، وهناك فرق بين ما إذا كان الأب يبدي اهتمامًا بما يسرده عليه ابنه أو ابنته أو أنه فقط يفتح السكايب ولا يبدو مهتمًا لما يقال له.
فالطفل يشعر ما إذا كان والده يصغي إليه أم لا. ومن الضروري أن يعرف الأب من هم أصدقاء ولده وكيف يمضي نهاره وما إذا كان يواجه صعوبة في المدرسة، ما إذا كان سعيدًا أم لا... عليه أن يلاحظ أي تغيير، فإذا كان يعلّق على مظهره أو على ملامحه يشعر الابن بأن والده فعلاً يتابعه ويكترث لأمره.
كما يمكن أن يكون التواصل من خلال طقس معين، كأن يعرف الطفل مسبقًا أن والده سيتحدث إليه في هذا الوقت أي قبل النوم وبعدما أنجز طقوسه قبل النوم، فهذا يشعره بأنه يشاركه طقوسه اليومية، وبالتالي بأنه حاضر معنويًا، مما يشعره بالأمان.
ولكن قد يحدث أن اختلاف الأوقات قد يجعل الأمر صعبًا، هنا على الأب أن يجعل توقيت اتصاله متوافقاً مع توقيت البلاد التي تعيش فيها عائلته.

- هل الأب الذي يعمل في مدينة أخرى، ويمضي عطلة الأسبوع مع أبنائه صورته أوضح؟
هنا الوضع أسهل. صحيح أن الحضور المادي ضروري لأن الطفل يرغب في رؤية والده عند الصباح والتحدث إليه، ولكن وجود الأب في مدينة مجاورة يسمح له بالتحدث اليومي مع الابن ومتابعته بشكل أقرب، خصوصًا أنه سيكون حاضرًا كل عطلة أسبوع، ويستطيع أن يكون سندًا بشكل فعال أكثر، وفي الوقت نفسه يدرك الابن أن والده يمكن أن يأتي في أي يوم.

- متى يشعر الإبن بغياب الأب ويصبح الأمر هاجسًا؟
عندما يشعر بالضيق وعدم الأمان، فمن الطبيعي أن يطلب من والده البقاء. وهنا الأب يشعر بالصراع لأنه لا يستطيع ترك عمله وفي المقابل ابنه يطلب منه البقاء لأنه في حاجة إليه.
لذا من الضروري أن يطمئن الأب ابنه إلىأنه في غيابه يتابعه ويستطيع التحدث إليه، كأن يقول له «كلما تشتاق إلي وتواجه مشكلة فكّر ماذا كنت لتفعل لو كنت أنا هنا».

- هل لغياب الأب التأثير نفسه في البنت والصبي؟
الإبنة والابن في حاجة إلى الأب، فهو بالنسبة إلى البنت النموذج الذكوري الراشد والصورة النمطية للجنس الآخر، والصبي في حاجة إلى صورة الأب للتماهي وتحديد الهوية.
وأنبّه الأم من السماح للإبن بلعب دور الأب كالقول «البابا ليس هنا أنت رجل البيت». فهذه العبارة تجعله يشعر بـأنه يتحمّل مسؤولية ما لا علاقة له به.

- هل هناك الكثير من الآباء الذين يعيشون في البيت ولكنهم غائبون؟
صحيح، فهناك الآباء العاطلون عن العمل الذين يؤثرون سلبًا في الأبناء نظرًا إلى أنهم يعيشون حالة كآبة ويفقدون الثقة بأنفسهم، وينقلون هذا الأمر الى الأبناء.
وهناك الآباء المدمنون الذين يجعلون الأبناء يشعرون بقلق دائم، وهناك الآباء القلقون بسبب إنشغالهم المستمر فيفرضون صورة الأب مصدر النقود.
وهنا لا نلوم الأب لأنه تربى على أن يكون رجلا عليه واجب تأمين قوت العائلة وتقع على عاتقه كل المسائل المادية، وبالتالي لا مكان له في الحياة العاطفية مع الأبناء ويعتبر مشاركتهم مشاعرهم ضعف أو أنه بكل بساطة لا يريد أن يشارك في التربية الكيانية للأبناء، فهو يظن أنه يفعل كل ما هو مطلوب منه أي التأمين المادي فقط وسلطته مستمدة من ذلك.
وغالبًا ما يلقي كل المسؤولية التربوية على الأم، إلى درجة أحيانًا أن هناك آباء لا يعرفون في أي مرحلة مدرسية أبناؤهم، الذين بدورهم يُغيّبون صورة الأب في حياتهم مما يجعلهم لا يعرفون الحدود.
وقد لاحظت ذلك من خلال عملي كاختصاصية في إحدى المدارس، فهناك عدد من التلامذة لا يعرفون معنى الحدود لا يهابون شيئًا أو يحترمونه وكل هذا بسبب غياب سلطة الأب ولا أعني تسلّطه.
وفي المقابل نجد تحولاً في علاقة الآباء مع أبنائهم، وهم يشاركون في أمور كثيرة ويكونون مصدر المعلومات والتعليم في الحياة بالنسبة إلى الأبناء، ولايخجلون من مساعدة الأم في تحضير الطعام أو قراءة القصص.
حتى الأب المسافر يمكن أن يشارك الأم في طقوس البيت اليومية وإن كان في إجازة. هناك فرق بين صورة الأب الذي ربى ولعب دورًا أساسيًا في حياة الأبناء، وصورة الأب الذي يكون مصدرًا للمال فقط.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078