في السعودية: الأخطاء الطبية المتكرِّرة
صور لأطفال، وقصص مؤلمة، وأحداث متتالية، وملفات تُفتح، وأخرى لا يُعرف عنها شيء، أرواح تزهق وتراكم أخطاء طبية، دون وجود قوانين صارمة وصريحة تُدين الجهات المعنية أو المُذنبة. هناك عقوبات فُرضت على بعض الجهات المخطئة، لكن في الغالب لا يحصل شيء. ومن مات في خطأ طبي فـ «البقاء لله»... هذا ما ينتج عن مسلسل الأخطاء الطبية الذي باتت تحتّل مساحة واضحة على صفحات الجرائد والمجلات السعودية، وكأنه خبرا اعتدنا قراءته، دون أن يحرّك أحد ساكناً... وفي غياب الإحصاءات الدقيقة التي تفيدنا بنسبة هذه الأخطاء في السعودية، تمتنع وزارة الصحة عن التجاوب كما يجب إلى وقت إعداد هذا التحقيق.
حمدي: فقدت مفرح وهو حي... ولم أجد من ينصفني
في البداية امتنع الوالد أحمد حمدي عن التحدث إلينـا، لكن سرعان ما تجاوب وبدأ بسرد قصة ابنه مفرح (9 سنوات) التي بدأت قبل ما يُقارب شهر تقريباً، عندما ذهب إلى المستشفى للكشف عليه بعدما اشتكى من بعض الآلام في يديه ورجليه بسبب الأنيميا المنجلية التي يعاني منها. وقال حمدي: «أخذته إلى مستشفى صامطة العام، وهناك أجريت التحاليل له، وأخبرنا الطبيب بأن حرارته وصلت إلى 38 درجة وهو أمر مطمئن نسبياً بالنسبة إلى حالة ولدي مفرح».
غادرت عائلة حمدي المستشفى برفقة مفرح، وفي اليوم التالي أصيب الطفل بحالة من الارتعاش، فعاد مع والده إلى المستشفى، وهناك تم تنويم مفرح وتعليق المغذيات والإبر له، وأجريت له عملية نقل دم، وبقي في المستشفى، دون أي وجود لبشائر تدل على الخير.
وأضاف الوالد: «بعد يومين انقلب ابني رأساً على عقب بعد نقل دم مرة أخرى إليه، وعندما سألت الطبيب لم يجبني، وخرج من الغرفة. بقيت مع ولدي في الغرفة وقد شعرت بأنه مُرهق ومُتعب، فطلبت منه أن ينام. وقفت قليلاً عند النافذة وأنا أنظر إلى ولدي على سرير المستشفى وادعو له بالرحمة والشفاء العاجل. وما كادت تغفو عيناه حتى سمعت صراخه، وبدأ يشكو من ألم في بطنه، لأجد بأن بطنه أصبحت منتفخة وجسمه متورماً، وعيناه أيضاً. ذهبت مُسرعاً لاستدعاء الطبيب ليرى حالة مفرح، فاستدعى طبيباً مختصاً بالأطفال ليخبرني بأن إحدى عينيه تعاني من نزف حاد وتحتاج إلى عملية. خفت أن أفقد طفلي إذا أُجريت له العملية في هذا المستشفى، فطلبت تحويله إلى مستشفى الملك فهد المركزي، وهذا ما حصل».
نقل مفرح إلى مستشفى الملك فهد المركزي في جازان، حيث أُجريت له جراحة أعلى عينه، لكن الجُرح العلوي كان ينزف دماً بصورة مستمرة ومخيفة، ولا يُشابه أي الجروح الأخرى. وعجز بعدها مفرح عن الحراك، وفقد بصره في إحدى عينيه. ويُشير والده إلى أنه طلب من المستشفى تقريراً طبياً عن حالة ابنه لكنها تمنعت عن إعطائه إياه بحجة أنه ما زال تحت التنويم في المستشفى، ولا يمكن إعطاء التقرير الطبي إلا عند خروجه منه.
ويضيف:» وجهت خطاباً للمتحدث بإسم المديرية الصحية في محافظة جازان محمد الصميلي ولم يرد حتى هذا اليوم. حتى أن وزارة الصحة لم تتعاون بالشكل المطلوب معي، وما زال ابني يتلقى العلاج في المستشفى والأمر لا يبشّر بالخير. فهو اليوم يعاني من شلل أعجزه عن الحركة، وقد فقد البصر في إحدى عينيه، ولا أجد سوى الله لأسأله أن يعيد حقي وحق ابني وأن ينظر إلى حالنا. فوالدته اليوم تعيش حالة نفسية سيئة جداً، وأنا لا أفارقه في المستشفى».
العمري: لم استطع أن أفعل أي شيء لأمنع موتها
لم تعرف سلاف (12سنة) أن عيد مولدها 28 نيسان/أبريل 2012 سيكون يوم وفاتها. ملاك يشعّ نوراً كما وصفتها مديرة مدرستها في بيت العزاء، وهي كانت روح منزل عائلتها، وصديقة مقربة من أختها سجى التي ما زالت تفتقدها إلى يومنا هذا، وأختها الصغرى أسماء التي تسأل عنها في أركان المنزل. وبين دموع والدتها التي لا تجف، وبين سطور تركتها في رسالة لوالدتها قبل يوم واحد من وفاتها تودع فيها والدتها وتخبرها بأنها ستلتقي وإياها في الجنة بإذن الله، حديث والدها الذي لم يقطعه سوى دموعه ونظراته إلى صور سلاف التي لم تفارق يديه عندما وصل إلى مكتب المجلة ليتحدث معنا عن قصة وفاة ابنته نتيجة إبرة خاطئة، وجرعة أدت إلى انفجار الرئة في أقل من ساعة.
بقلب الأب الذي لم يستفِق من الصدمة إلى يوم إعداد التحقيق، وبقلب المؤمن الذي يحتسب أمره وحقه عند الله، وبدموعٍ قتلت صمت الثواني، بدأ أحمد العمري حديثه قائلاً: «كنا نخطّط لسهرة عائلية أنا وزوجتي وبناتي بمناسبة عيد مولد ابنتي الكبرى سلاف. لكن زوجتي أخبرتني بأن هناك موعداً لتطعيم ابنتي الصغرى أسماء، فتوجّهت زوجتي ومعها سلاف وأسماء إلى مستشفى الجامعة، وتم بالفعل إعطاء اسماء التطعيم، وسألت زوجتي الطبيبة فحص سلاف لأنها كانت قد تغيبت عن المدرسة في هذا اليوم لشعورها بالتعب، إلا أن الطبيبة أمرت بإعطائها إبرة الفلاجيل 60 ملم في قسم طوارئ العيادات، ومن ثم بإعطائها باراسيتامول وريدي حوالي 30 ملم. وعند إعطائها هذه الجرعة، بدأت سلاف بالصراخ، والنظر إليّ وطلبت مني أن لا أتركها عندما حاولت الطبيبة إخراجي بالقوة من الغرفة ولا أعرف السبب. نُقلت سلاف إلى غرفة العناية المركزة في المبنى الثاني من المستشفى، ودخلت معها إلى الغرفة التي وجدتها تفتقد أي مواد وأجهزة طبية، وطلب مني الطبيب الخروج وعندما رفضت، بدأ يُهددني بأنه لن يقوم بشيء لابنتي إن لم أخرج، حتى أن زوجتي ركعت عند قدمي الطبيب وتوسّلت إليه أن لا يُخرجها، غير أنه لم يأبه لأي توسّل وأمر الكادر الطبي بالتوقف عن العمل. وعندما خرجنا كانت ابنتي تنازع بين الحياة والموت، وكانت تشير إلي بيدها وتصرخ وتطلب مني البقاء إلى جانبها وعدم تركها. عدت إليها فأمسكت بيدي وتوسلت إليّ أن لا أتركها لأفهم سيقتلونها، وأخبرتني أنها لم تعد قادرة على التنفس، وبدأت تتقيأ دماً. وعندما سألت الطبيب أخبرني بأن الدم نتيجة جرح في الحنجرة، وأخرجني بقوة من غرفة العناية.، وبعد أقل من ساعة، خرج الطبيب ليخبرني بأن الموت حق علينا، وان ابنتي عانت من تحسس شديد تجاه الإبرة، ما أدى إلى انفجار الرئة لديها ووفاتها».
قطع العمري الحديث وأمسك صور ابنته وبدأ بالنظر إليها وأجهش بالبكاء عندما تذكر كيف كانت تتوسل إليه وتخبره بأنها لا تريد أن تموت: «لم أستطع أن أفعل لها شيئاً، حتى أنني حاولت قطع الأنابيب التي كانت تمدّها بالأدوية ولم أفلح... حاولت مع الأطباء أخذها من المستشفى لكنهم لم يسمحوا لي بذلك، ولم يتعاون الطبيب عندما سألته ما الدواء الذي أعطيته لها لتنفجر الرئة، لم يجاوبني سوى صوت صراخ والدتها وهي تحتضنها وتبكي وكأنها تلوم ذاتها. وتجمّع أفراد عائلتي في الغرفة وكأنه يوم لوداع صغيرتي التي لم تفارقني بعد مرور عام على وفاتها. أزورها كل شهر، وأروي قبرها بالمياه ودائماً أجد الحمام والطيور تزور قبرها وتحط عليه. لم ينصفني أحد من وزارة الصحة ولم يستمعوا حتى إلى تقرير الهيئة الطبية الشرعية الذي كان خاطئاً وكل معلومة فيه كانت كاذبة، فهم ادّعوا أن ابنتي كانت تعاني من ارتفاع درجة الحرارة والتقيؤ والإسهال، لكنها لم تكن تعاني شيئاً، وهم من قتلوها».
أقرت الهيئة الطبيّة الشرعية بوجود الخطأ الطبي، وأقرّت بضرورة دفع الأطباء المذنبين 50 ألف ريال سعودي يُقسم بين الأطباء ويتم تسليمه لوالد سلاف. لكن الأطباء امتنعوا عن الدفع، ولم تقم وزارة الصحة بأي خطوة.
د. الزمزي: شكاوى الأخطاء الطبية لا تتجاوز خمسة في المئة
كشف عضو الهيئة الطبية الشرعية الأساسية في جدة، أستاذ أمراض النساء والولادة، الدكتور طارق زمزمي أن أعلى نسبة للأخطاء الطبية في القطاع الخاص تتعلّق بأمراض النساء والولادة حيث بلغت 19 في المئة وصدر أحكام لـ16 في المئة من هذه القضايا، تليها الأخطاء الجراحية العامة والتخصصية، ومن ثم أخطاء طب الأطفال. وحول القوانين والنظام الموضوع من وزارة الصحة، بيّن زمزمي أن النظام وضع لمصلحة الأطباء «ولكن للأسف هناك شريحة كبيرة من الأطباء ليس لديهم علم بنظام المهن الصحية ولم يطّلعوا عليه، لذا أطالب الشؤون الصحية أو الهيئة السعودية للتخصّصات إلزام كل طبيب وممارس صحي عند رغبته في تجديد رخصته أن يعطى كتاب نظام مزاولة المهنة الصحي وأن يطّلع عليه، لا سيما أن كثيرا من الأطباء والكوادر الصحية ليس لديهم علم ولم يطّلعوا على الكتيب».
وعن العقوبات الصادرة بحق الأطباء وهل هي كافية للحد من الأخطاء الطبية قال إن أغلب هذه العقوبات عبارة عن تعويضات، باستثناء عقوبة واحدة كانت توقيف طبيب، وإلغاء الترخيص، لافتا إلى أن أسوأ عقوبة طبّقت هي السجن بحق أحد الأطباء لمدة تراوح بين 3 و 6 أشهر بسبب وجود تجاوزات واضحة من الطبيب. ويرى أن هذه التعويضات المادية تتناسب مع حجم الأخطاء، كونها ازدادت بالنسبة للذكر إلى 300 ألف ريال وللأنثى 150 ألف ريال، فيما كانت سابقاً 100 ألف ريال للذكر و50 ألفاً للأنثى، إضافة إلى أنها قابلة للزيادة وفقاً لحجم الخطأ وقد تصل إلى مليون ريال. وقال: «اتضح من خلال تحليلي للدراسة أننا نسير في الاتجاه نحو المزيد من الأخطاء الطبية»، مؤكدا أن نسبة الأشخاص الذين يتقدمون بالشكاوى من الأخطاء الطبية قد لا يتجاوزون خمسة في المئة مشيراً إلى أن «هذه النسب التي تصلنا فقط وما خفي أعظم، أنا لا أقصد التشهير أو التخويف ولكن لا بد من تسليط الضوء على الأخطاء الطبية حتى نتمكن من معالجة الأمر».
وطالب «المنشآت الصحية بعدم توظيف أي طبيب من داخل السعودية أو خارجها قبل أن يحصل على ترخيص من الشؤون الصحية، خاصة الأطباء الذين يأتون من خارج المملكة وليس لديهم علم بالقوانين الموجودة فيها والتي من أهمها الحصول على ترخيص بمزاولة المهنة».
المالكي: يحقّ للمريض المطالبة بالتعويض عند صدور خطأ من الطبيب
من جهته، أوضح المحامي أحمد بن جمعان المالكي أن نظام مزاولة المهن الصحية صدر بالمرسوم الملكي رقم (م/59) وتاريخ 4/11/1426ه لحماية المرضى من الأخطاء الطبية التي تقع من الممارس الصحي أثناء عمله. وقد نصّ على أنه يعاقب الطبيب بحسب النظر إلى نوع الخطأ الذي ارتكبه، وتقسم المسؤولية إلى مدنية وجزائية.
وحول المسؤولية التأديبية أشار إلى أنها تتحقق «عند ارتكاب الطبيب فعلاً يمثل خروجاً على مقتضيات وواجبات وظيفته أو مهنته وهذا ما جاءت به المادة (31 ) من نظام مزاولة المهن الصحية، وجاء المنظم السعودي وحدّد العقوبات التي تقع على الطبيب في المواد (32,29,28) والتي تبدأ بالإنذار أو السجن مدة لا تتجاوز ستة أشهر أو بغرامة لا تزيد عن مئة ألف ريال أو إلغاء التراخيص بمزاولة المهن الصحية وشطب الاسم من سجل المرخص لهم، وذلك بحسب الخطأ. والجهة المختصّة بالنظر في الأخطاء الطبية هي الهيئة الصحية الشرعية، وبعد أن يصدر قرارها يحق لمن صدر بحقه أن يطعن فيه أمام المحكمة الإدارية وذلك خلال 60 يوماً من تاريخ إبلاغه بقرارات الهيئة. ويحق للمريض المطالبة بالتعويض عند صدور خطأ من الطبيب. وهنا يلتزم من أحدث هذا الضرر بتعويض المضرور أو ورثته التعويض التي تقدره الهيئة الصحية الشرعية.
اتصلت «لها» بالناطق الرسمي باسم وزارة الصحة الدكتور خالد مرغلاني أكثر من مرة للوقوف على رأي وزارة الصحة في ملف الأخطاء الطبية، ولعرض التحقيق لكل وجهات النظر بموضوعية. وطلبت «لها» مناقشته في التقرير الأخير الذي نشرته الصحف المحلية في شباط/فبراير الماضي والذي يشير إلى احتلال الرياض المركز الأول في قضايا الأخطاء الطبية لتليها عسير ومن ثم جدة، وغير ذلك من الأسئلة... فوعد بالتعاون طالباً إرسال الأسئلة على الفاكس، وتم إرسالها بالفاكس والبريد الالكتروني، وحاولنا الاتصال به مراراً بعدها، لكنه لم يتجاوب مع المجلة حتى كتابة هذه السطور.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024