تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

في 'بوركيني' لمايا الحاج

لقد مرَّت سنوات وأنا زميل لمايا الحاج في مجلة «لها». فكيف حدث أنني لم أسألها يوماً عن السبب الذي جعلها تتحجَّب، ومتى تحجَّبت؟ وهل حدث ذلك بإيحاء من الخارج أو عن قناعة ذاتية قائمة بالطبع على حافز ديني.
هذه الأسئلة التي لم تُطْرح، تبرَّعت مايا الحاج بالإجابة عنها في روايتها الأولى «بوركيني» الصادرة حديثاً عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف - بيروت.


لكنْ، متى كانت مايا الحاج روائية؟ لم يحدث أن بدا عليها ذلك. ويبدو أنها، هنا أيضاً، كانت تضعُ حجاباً على موهبتها الأدبية الحقيقية والأصيلة، قبل أن تقرِّر السفور دفعة واحدة، بعمل روائي كامل فيه من نُضْج الاحتراف أكثر ما فيه من مغامرة البدايات.

بلى، كان يمكن لقارئ مقالات مايا الحاج أن يلاحظ أدباً وحساسية أدبية متميزة في لغتها وفي نظرتها إلى الأشياء. لكنَّ مفاجأتها لمَنْ حولها بكتاب كامل ذكي وعميق ولمَّاح كان مدهشاً بالفعل.

وفوق ذلك، فإن موضوع الرواية دقيق وصعب، والتورُّط في معالجة هكذا موضوع لا يخلو من مخاطر ومطبَّات، ويحتاج إلى مهارة أدبية من نوع خاص. فمايا الحاج تسوق إلى مسرح الأدب فتاة مُحجَّبة يمكن اعتبارها من حيث الإنتماء الثقافي والإجتماعي فتاة «ليبرالية» وتُخضِعُ حجابها لامتحان درامي مثير ينطلق من عاصفة غيرة على حبيبها أو خطيبها عندما تشعر أنه في مهبّ تأثير أو غواية فتاة أخرى كانت في ما سَلَف من الزمن حبيبته.
ثم لا يلبث التنافس الصامت والقائم في الأساس على الأوهام أكثر مما هو قائم على واقع حقيقي، أن يتحوَّل إلى بداية حرب بين بطلة الرواية وغريمتها المدججة بأكثر من وسيلة إغراء.


فمن أين لفتاة مُحجَّبة تُخفي ما تعتبره أجمل ما عندها أن تنجح في مواجهة فتاة أخرى تبالغ في استخدام أجمل ما عندها في هذا الصراع المصيري؟

هل تنزع المُحجَّبة حجابها؟ إن ذلك لا يقلُّ إيلاماً عن انتزاع قطعة من جلدها؟ وبدلاً من ذلك يدفعها جنونها العاطفي إلى مناورة عُرْيٍ تفتعل لها تغطية شرعية عندما تسرع إلى الزواج من خطيبها بصورة لا تخلو من نزق، وعندما يظهر لها أن هذا غير كافٍ تفكِّر جدّياً بالتخلّي ولو جزئياً عن الحجاب.
فهل ستنجح في ذلك؟ أو هل ستستطيع ذلك؟ وماذا لو انتهيت مراهنة من هذا النوع بالفشل أيضاً؟ فما الذي سيكون عليه مصير البطلة؟

القوَّة الدرامية للكتاب تقوم على هذا التوتّر الذي يمتدُّ من أول الرواية إلى آخرها. والذي يوحي دائماً بنهاية مزلزلة.
رواية عميقة وصادقة وجميلة، والأهمّ من ذلك أنها ممتعة ومُسليّة، وأنني باسمي شخصياً، وباسم أسرة «لها»، نهنِّئها على كتابها الأول هذا، متمنين «لها» النجاح في مشاريعها القادمة.


مشهد من الرواية

«أمشي نحو الباب وأنا أسمع طرقات قوية لا أدري إن كانت هي ضربات قلبي أم طقطقة السكربينة العالية الكعب. أتذكّر أنني لم أضع العطر الذي يُحبّه. هذا العطر الذي أصبح جزءاً من جسدي، ومن روحي.
قضيت سنوات وأنا أفتّش عن عطر يُشبهني، يُشعرني بأنني أنا. لم أكن مقتنعة بالعطور التي كنت أضعها، والتي كنت لا أضعها. وفي مرّات غير قليلة كنت أكتفي برائحة الصابون الذي أغسل به جسدي أو ببعض الكريمات التي أرطّب بها بشرتي بعد الإستحمام.
ولكن منذ أن عثرت على عطري، الذي صار يُسمّيه المقربون مني باسمي، شعرت بأنني عثرت على هويتي الضائعة، ولم أعد أتخلّى عنه البتّة.

أصحابي يعرفون أنني موجودة في هذا المكان أو ذاك من رائحة العطر الذي أضعه. أمّا العطور الأخرى التي تُهدى إليّ في مناسبات معينة، فأقدمها بدوري هدايا إلى أمي أو شقيقتيّ أو إحدى صديقاتي، حتى قبل أن أشمّ رائحتها.
في الروائح والعطور لا مجال للمغامرة. وأنا أصلاً لا أهدي احداً قارورة عطر، لأنّ العطر هو إكسير الجسد وبصمته. وعلى من يختار عطره أن يكون عارفاً برائحة جسده الطبيعية حتى يرى إن كان يليق به أم لا! ومن أجل هذا يُمكن أن يبدو العطر جميلا على جسد امرأة، وأن يكون هو نفسه مُقززاً على جسد أخرى.

هكذا، عندما شممت «عطري» قبل خمس سنوات كان بمثابة اكتشاف كبير لي. وقعت في عشقه، وأحببت الغموض الذي فيه قبل أن أعرف أنّه العطر الأول الذي يصنعه صاحبه للمرأة والرجل في آن...»

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077