صلاة الفنانين باطلة!
فجأة خرج أحد الدعاة ليعلن فتوى مثيرة، عندما أكد أن صلاة الفنانين في أعمالهم الفنية باطلة، وأن عليهم التوقف عن أدائها، لأنه لا يجوز التمثيل في الصلاة بكل طقوسها التي لها قدسيتها في الدين. وبعده خرجت شائعة أن دار الإفتاء في مصر أيدت تلك الفتوى، لكن دار الإفتاء عادت ونفت أن تكون قد وافقت على تلك الفتوى. «لها» تسأل علماء الدين عن آرائهم في تلك الفتوى، وحكم الشرع في أداء الفنانين للصلاة في أفلامهم ومسلسلاتهم.
في البداية يرى الدكتور عطية فياض، أستاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، أنه لا بد من التعامل مع المستحدثات ومنها التمثيل بفكر مستنير، يُحسن قراءة الواقع بلا إفراط أو تفريط، فوجود مشاهد تمثيلية في العمل الفني، سواءً كان مسلسلاً أو فيلماً، تتطلب قيام ممثل أو ممثلة بأداء الصلاة ليس فيه حرمة بشروط، أهمها أن يكون تمثيل هذا المشهد ضرورياً في إيصال معنى أو رسالة معينة لا يمكن إيصالها إلا بأداء هذا المشهد، وأن يكون المشهد في إطار محترم لا يتناقض مع فضائل الأخلاق، ويلتزم الممثل أو الممثلة بمظهر الخشوع في الصلاة، وليس فيه أي سخرية من أداء هذا العمل الذي له صبغة دينية، وأن تلتزم الممثلة مثلاً بالواجب الالتزام به أثناء الصلاة شرعاً، من ستر العورة وتغطية الشعر وخلافه من الآداب التي يجب أن تلتزم بها كما لو كان المشهد حقيقياً.
ويضيف فياض: «لست من أنصار مذهب التوسع في التحريم أو الأخذ بالأحوط، حتى لا يتم تحويل الإسلام إلى مجموعة من الأحوطيات التي تمنع الحلال أو المباح خشية الوقوع في المحظور، لأن الإسلام في أصله دين اليسر ما لم يؤد ذلك إلى حرام، فقال تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» آية 185 سورة البقرة».
النية
أما الدكتورة عبلة الكحلاوي، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية للبنات في جامعة الأزهر، فتؤكد أن كثيراً من الباحثين يخطئون عندما يختزلون الفن في الغناء والموسيقى والرقص، مع أن الفن الحقيقي أوسع مجالاً وأسمى هدفاً وأبعد تأثيراً إيجابياً في النفس البشرية، ولهذا يمكن اللجوء إلى تصوير مشهد لصلاة رجل أو امرأة أثناء تأدية الفريضة لتوصيل معنى يصعب توصيله بغير هذا المشهد. وهنا يكون الحساب حسب نية المؤلف والممثل والمخرج من هذا المشهد، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وذلك لأن النيات من الأمور التي يتم على أساسها الحساب من الله في الدنيا والآخرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
ووجهت الكحلاوي نصيحة للقائمين على الأعمال الفنية، أن يحاولوا قدر الإمكان التقليل من مشهد أداء الصلاة في أعمالهم الفنية، إلا للضرورة التي تقدر بقدرها وبمدى الحاجة الشديدة إليها، وذلك للحفاظ على قدسية هذه الفريضة وحمايتها من الابتذال إذا تم التساهل فيها، فيتم إدخالها في الأعمال الفنية بمناسبة أو غير مناسبة، مما قد يؤدي إلى أداء هذا المشهد بشكل لا يتناسب مع قدسية الصلاة ومكانتها في نفوس المسلمين، حيث جعل القرآن أداء الصلاة في خشوع من صفات المؤمنين، فقال تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» الآيات 1-3 سورة المؤمنون.
الأداء
وتشير الدكتورة فايزة خاطر، رئيسة قسم العقيدة في كلية الدراسات الإسلامية بالزقازيق جامعة الأزهر، إلى أن الإسلام لا يحارب الفن الهادف ولا يعادي الجمال الذي يظهر قدرة الله، وليس بالتعري. وبالتالي فإن الفن النظيف البنَّاء الذي يحترم القيم والأخلاق لا يمكن أن يصطدم بالعقيدة الإسلامية، بل يمكن أن يلتقي مع الدين في أعماق النفس.
وأضافت الدكتورة فايزة أن «الحكم على أداء العبادات، خاصة الصلاة في الأعمال الفنية، يتوقف على طريقة أدائها، فإن كانت محترمة ولا مساس فيها بقدسية العبادة، فإنه لا مانع شرعاً، وخاصة إذا كان الهدف نبيلاً وهادفاً، كأن يكون تعليمياً أو تربوياً أو إيصال قيم أو فضائل أخلاقية. أما إذا كان الغرض الإسفاف أو السخرية فهذا حرام، وكل من يشارك فيه آثم شرعاً ويجب التصدي له، لأن الصلاة عماد الدين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين». بالتالي فإننا يجب أن ننظر إلى طريقة تقديم الصلاة في العمل الفني، هل هي من قبل إقامة الدين أو هدمه، وفي ضوء ذلك يكون الحكم بالحلال أو الحرام».
وأنهت الدكتورة فايزة كلامها بالتأكيد أن «القضية ليست حراماً تماماً أو حلالاً تماماً، ولهذا واجب علماء الدين توجيه النصح لأهل الفن الذين يعملون في تلك المنطقة الملغومة، باستبدال بعض المشاهد التي يمكن أن تثير جدلاً دينياً بأخرى لا جدال فيها، خاصة أنه يمكن استبدال بعض المشاهد بالإشارة إو الإيحاء دون أن يؤدي ذلك لخلل في السيناريو، وهذه النصيحة منا ليست مجرد كلام، وإنما هي أمر شرعي أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «الدين النصيحة – ثلاثاً – قلنا: لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»».
فروق
وتؤكد الدكتورة آمنة نصير، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية، أن الحكم الشرعي في المشاهد الفنية الخاصة بأداء الصلاة يرتبط بالمقاصد والنيات، التي هي محل نظر الله ومحاسبته لخلقه، لأن النية هي الباعث على العمل، بل مطلوبة لتمييز العبادات بعضها عن بعض وكذلك لتمييز العادة عن العبادة، وبالنيات تتفاضل الأعمال ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العبد من الإيمان والإخلاص، فإذا كان قصد صاحب العمل الفني نبيلاً ونيته صادقة يكون له أجر كبير، والعكس صحيح إذا كانت نيته السخرية من الصلاة أو المصلي في العمل الفني، لهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ».
وفرقت الدكتورة آمنة نصير بين من ينوي بتصوير الصلاة في الأعمال الفنية ابتغاء مرضاة اللهَ والدار الآخرة، فيكتب الله له ثواب عمله، أما إذا أراد به السمعة والرياء أو السخرية من المصلين فقد حبط عمله، ولعل هذا الضابط العقائدي والأخلاقي في أي عمل يقوم به الإنسان أن يجعل نصب عينيه قوله تعالى: «فَمنْ كانَ يرْجُو لِقاءَ ربِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» آية 110 سورة الكهف.
وحذرت الدكتورة آمنة من هواة الشهرة عبر السخرية من الإسلام وعباداته، كالصلاة، لتحقيق مال وجاه، فإنه سيكون من الخاسرين للدنيا والآخرة مهما كسب من شهرة ومال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت الدنيا همَّه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيّته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة».
بدون تمثيل
يرى الدكتور صبري عبد الرؤوف، أستاذ الفقه المقارن بكلية الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر، أنه «لا يمكن إصدار حكم واحد بالحلال أو الحرام، لأن الحكم الشرعي مرتبط بطبيعة العمل وآثاره الإيجابية أو السلبية، فمثلاً إذا كان العمل الفني فيه إسفاف فإن المشاهد التمثيلية للصلاة تكون حراماً، وكذلك يحرم التشبه المفتعل بالمصلي في الحركات فقط، وللخروج من هذا المأزق يجب أن يكون العمل نظيفاً وهادفاً، وأن يقوم الممثل أو الممثلة بأداء صلاة حقيقية وليست تمثيلاً، وعندئذ يمكن تصويرها واستخدامها في العمل الفني».
ونصح الدكتور صبري القائمين بالأعمال الفنية بالابتعاد «قدر الإمكان عن المناطق التي يلتبس فيها الحلال بالحرام، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيَّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»». وأنهى الدكتور عبد الرؤوف كلامه بالتأكيد أنه يجب على من يدينون بالإسلام من أهل الفن أن يهجروا كل المعاصي، وأن يكونوا ممن قال فيهم رسـول الله صلى الله عـليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه». ولابد أن نؤكد أن التمثيل ليس حرامًا ما دام فى إطار مبادئ الأخلاق، لأنه لا أحد ينكر ما للتمثيل الهادف من دور فعال في معالجة الكثير من المشكلات والقضاء على العديد من السلبيات في المجتمع.
تقليد
ويحذر الدكتور منير جمعة، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، من التقليد الأعمى للفن الغربي الذي لا يحترم الأديان، بل يتطاول عليها ويسعى لهدمها بكل الوسائل، لأنه فن بلا دين، انطلاقاً من تهميش الدين في نفوس تلك الشعوب التي ارتضت العلمانية التي تحبس الدين في دور العبادة وتبعده عن كل شؤون الحياة، ولهذا لا بد أن يكون الفن في دول العالم الإسلامي أصيلاً، يتناغم مع حاجات العصر ويتفق مع الفطرة الإنسانية السليمة ويملأ الإحساس والوجدان بمحبة الله.
ويضيف: «عشت فترة طويلة في الغرب، لاحظت مدى التهاون بأمور الشعائر الدينية، بل والتطاول على الأنبياء كوسيلة لتحقيق أرباح مادية، ولهذا أحذر أهل الفن لدينا من ركوب الموجة من خلال تصوير الصلاة في مشاهد ساخرة أو غير محترمة بزعم حرية التعبير والإبداع، وذلك لأن هناك خطاً فاصلاً بين حرية التعبير وبين التطاول على الاديان أو السخرية من العبادات كالصلاة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر».
هناك فرق
يؤكد الدكتور محمود مزروعة، العميد الأسبق لكلية أصول الدين في جامعة الأزهر، أن الفنان المسلم الذي يخشى الله يبتعد عن كل ما حرم الإسلام من بعض صيغ التعبير الفني، لما فيها من مخالفة للعقيدة الإسلامية والآداب الشرعية، ومنها أداء الصلاة بهيئتها كاملة في مسجد في العمل الفني، مثلما فعل الفنان فريد شوقي في فيلم «رصيف نمرة 5»، فهذا تصرف ليس مقبولاً شرعاً، لأن فيه عدم تقديس للصلاة.
وفرق مزروعة بين أداء الممثل أو الممثلة لفريضة الصلاة أمام الكاميرا وبين أداء الممثلين للصلاة بشكل حقيقي، حيث إن التصرف الأول قد يكون عليه محاذير دينية، أما أداء الصلاة الحقيقية بعيداً عن الكاميرات فإن الممثل أو الممثلة يثاب عليها بقدر الخشوع فيها، ولا يجوز التعصب بالحكم على الفنانين أو الفنانات أن صلاتهم الحقيقية غير مقبولة لأنهم يؤدون بعض الأدوار المرفوضة شرعاً أو فيها بعض المخالفات الأخلاقية، فكل عمل مستقل بذاته، وبالتالي فإنه يثاب على الصلاة ويعاقب على المخالفة الأخلاقية. ويجب على الدعاة أن يأخذوا بأيدي الناس إلى الطاعات بالرفق وليس بالتعصب والتكفير أو التنفير، بل إن الأفضل في التعامل مع غير الملتزمين تطبيق الأمر الإلهي الذي يقول فيه الله سبحانه وتعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» آية 125 سورة النحل. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أُعطي حظه من الرفق، فقد أُعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق، فقد حرم حظه من الخير».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024