عميد الفن السعودي الراحل طارق عبد الحكيم...
من حيث ابتعث لدراسة الموسيقى في صباه ودّع الحياة، من القاهرة، بأفراحها وأحزانها بعد 97 عاماً من مسيرة فنية حافلة ومليئة بالانجازات.
كان طارق عبد الحكيم رئيس المجمع العربي للموسيقى في جامعة الدول العربية لفترتين. حصل على جائزة اليونسكو للموسيقى عام 1981، كما عمل خبيراً للفنون الشعبية في الرئاسة العامة لرعاية الشباب.
من هو عميد الفن السعودي؟
لطارق عبد الحكيم بن عبد الكريم تاريخ فني طويل سرده وأرّخه إسماعيل عيسى حسناوي في كتابه «عميد الفن السعودي: الموسيقار طارق عبدالحكيم». فهو تاريخ رجل، وقيادة عسكرية، وفارس لحن، وصاحب فكر إبداعي.
ولد في مدينة الطائف عام 1338هـــ، بضاحية المثناة، في أحضان المزارع والحقول الخضراء المطعمة بالورود. والده كان مزارعاً فربى فيه حب الأرض والزراعة.
منذ صباه ترنّم على أنغام الطبيعة والغابات الخضراء في عروس المصايف مدينة الطائف التي كثيراً ما تغنى بها وتناولها في العديد من أحاديثه الودية.
عاش فوق الكثبان الرملية ملامساً أوراق البساتين الخضراء ومستنشقاً عبير الورود والزهور.
اختزن إيقاع الكون وأصداء التراث القديم من الأغاني الشعبية والكسرات والمجرور، إلى أن عشق الموسيقى والفنون بشكل عام.
لم يتوقف حبه للموسيقى والغناء عند الأداء والإبداع، بل تجاوز طموحه الإقليمية ليرحل بالفن السعودي إلى آفاق ومساحات بعيدة يقدم من خلالها الفن السعودي بأصوات عربية ويكون رائداً في تعريف العالم العربي بالفن السعودي عبر كلمات جملة من الشعراء الرموز مثل الأمير الراحل عبد الله الفيصل، ومحمد فهد العيسى، وإبراهيم خفاجي، ومحمد طلعت.
«الزعيم» و«اليوز باشي» و«العميد»، ألقاب لم تأتِ من عدم كون طارق عبد الحكيم لا يقبل سوى الريادة. فهو أول من أسّس الفرق العسكرية الموسيقية في وزارة الدفاع السعودية، وأول مبتعث للمعهد العربي للموسيقى في مصر، ورئيس لأول بعثة عسكرية سعودية لزيارة معاهد الموسيقى العسكرية في الجيش الأميركي.
لذا يستحق الراحل أن يلقّب بكل ما ذكر. فهو أستاذ أسس قاعدة فنية تخدم تطوير الموسيقى في الجزيرة العربية، لتنتشر في أنحاء العالم العربي.
أثر في مسامع جيله ومتذوقي الفن الأصيل في عصره الذهبي، عندما تغنى في «لك عرش وسط العين، ياللي في هواك هيمان، يا ناعس الجفن، يا أهل النقاء، ربيع العمر». وعلى مستوى التراث قدم «هيا عسى خير، مما بروحي، عشقته ولالي في المقادير حيلة».
قدم سمفونيات داعب فيها المشاعر والخيال، فصوّر بإحساسه اللحني لغة الحب والوفاء للوطن وروح الحماسة العسكرية وحوار الطبيعة، «كرقرقات الماء الجاري، وهزيم الرعد، وهدير البحر، وهديل الحمام»، ليقدم أكثر من عشرين سمفونية ولحناً عسكرياً، من أبرزها سيمفونية «القبائل، ووادي الحج». لذا شكل تاريخاً وارثاً موسيقياً حافلاً ارتبط بتطوير لغة الموسيقى في الجزيرة العربية.
عندما حصل على جائزة اليونسكو، لم يستطع تسلّمها في المحفل التكريمي لظروفه الصحية، مما جعل المجمع العربي للموسيقى يكلّف الموسيقار العراقي منير بشير تسلم الجائزة نيابة عنه.
وفي المناسبة نفسها قال بشير: «دمعت عيناي عندما فوجئت بأن القاعة مليئة بكبار الموسيقيين العالميين الذين حضروا ليشاهدوا الموسيقار البدوي طارق عبد الحكيم الذي انتزع منهم الجائزة ليسكنها الصحراء العربية».
وبعد قراءة البيانات والمميزات، وعند ذكر اسم طارق عبد الحكيم وقف كل من في القاعة احتراما لقامته بعد أن سمعوا إنجازاته وما قدمه للموسيقى.
طفولته
عند بلوغه السابعة من العمر ألحقه والده بالمدرسة السعودية بباب الريع في الطائف لينهل العلم والمعرفة، ومنذ مراحل تعليمه الأولى كان مثابراً مجتهداً مما أثلج صدور معلّميه.
في تلك المرحلة فجع بوفاة والده الأمر الذي جعله ينتقل هو ووالدته وشقيقه وشقيقته إلى منزل خاله لتستمر الحياة.
أنهى طارق دراسته الابتدائية بدرجة امتياز وتفوق، وقرر أن يتجه الى الحياة العملية ليخفف الحمل الثقيل عن كاهل خاله فطلب منه أن يعمل معه في الزراعة ويتقاضى مقابل ذلك أجراً.
رحب خاله بذلك القرار وبدأ حياته العملية في مزرعة خاله وكان يشرف على الحسابات في حلقة الخضار. وبعدما تقاضى أول راتب من الوظيفة الجديدة بادر باستئجار منزل وأثثه بما يلزم ومن ثم فاجـأ والدته وخاله، ومن هنا بدأ رحلة المسؤولية بعد أن أصبح فتى يافعاً.
الفن والطرب وآلة العود
عندما زار مجموعة من الرجال مدينة الطائف قادمين من مكة المكرمة افترشوا ظل شجرة التوت في بستان خاله يتوسّطهم شيخ وقور يلبس ثياباً ناصعة البياض ويحتضن آلة عجيبة يعزف على أوتارها التي ينبعث منها صوت جميل كصوته العذب والجميع يرددون معه بنشوة وحبور، بينما ذلك الفتى الصغير فوق شجرة التين بأمر من خاله يقوم بجمع التين في صناديق.
إلا أن الفضول دفعه الى الاقتراب من مجموعة الرجال ومشاركتهم ما ينشدون. وكان الفن الذي شاهده طارق يختلف عن الغناء الذي تربى عليه في القرية مثل المجرور والحدري والفرعي والمجالسي فدفعه فضوله للسؤال عن اسم الشيخ فعرف بأنه الفنان المكي حسن جاوه، ثم سأل عن الآلة العجيبة التي يعزف عليها فقالوا له إنها آلة العود.
وظلّ الشاب اليافع طارق عبد الحكيم يفكر ملياً في اقتناء آلة العود متذكراً مقولة خاله «أنت فنان يا ابني بارك الله فيك». وراح يشغله هاجس كيف يصبح فناناً... واستطاع في يوم من الأيام شراء آلة العود وأخذ يضرب على أوتارها ويغني.
وذات يوم أخبره أحد زملائه بان الفنان الشريف هاشم العبدلي سيحيي حفلة زفاف ابنة أحد الأثرياء في الطائف، فلم يوفر طارق هذه الفرصة وشاهد الشريف هاشم يغني بأعذب الألحان بصوته العذب.
عندها تذوّق معنى الفن وحلاوته، وكبر الحلم والطموح في رأسه وأراد ان يصبح كمثاله الأعلى العم حسن جاوه وكذلك الشريف هاشم العبدلي.
واصل طارق العمل في وظيفته لدى الشيخ عبدالوهاب الحلواني في المحاسبة والجرد وبيع الخضار في المزاد في الحلقة وتصفية حقوق العمال.
وبينما كان في يوم من الأيام منهمكاً في الشغل حضر إلى السوق قائد عسكري يرتدي بزته العسكرية وعلى كتفيه الأوسمة والنياشين... شد القائد نشاط الشاب طارق عبد الحكيم وذكاؤه في العمل فسأله ما اسمك؟ فاجاب بتردد.
ثم سأله عن شهادته فأخبره فقال له «يا ابني انت شاب يافع وهذه الوظيفة لا تليق بك، فالمستقبل قدامك وإذا أردت العمل في الدفاع عليك الحضور إلى القشلة العسكرية».
سأل طارق عن القائد العسكري في السوق فقالوا له إنه زعيم في الجيش، وراح يفكر في ما قاله له القائد وتضاربت افكاره ما بين الفن والعمل العسكري.
ولكن قرر أخيراً الالتحاق بالجيش السعودي وذلك لتأمين مستقبله ومستقبل أخيه غازي وشقيقاته.
بعد أيام قلائل وقف الشاب طارق أمام مكتب الزعيم العسكري وقدم له طلب الالتحاق. قرأ القائد طلب طارق بتمعن ثم صافحه وقال له «أهنئك يا ابني على تفكيرك السليم وأدامك على هذه الخطوة الطيبة». وتمنى أن يراه قائداً عظيماً.
عاد طارق للعمل في السوق وما هي إلا أيام حتى حضر جندي طلب منه مرافقته دون قيد أو شرط وسط استغراب جميع من في السوق، ثم ذهب به إلى مكتب القائد العسكري الذي هنأه بانضمامه إلى الخدمة العسكرية.
وباشر عمله الجديد بسعادة وشغف وخوف وتفاؤل لتتحوّل حياته من العمل كمزارع ومحاسب في حلقة الخضار إلى جندي يعمل في قطاع مهم سرعان ما تميّز فيه من خلال جده ونشاطه وإخلاصه في تأدية الواجب العسكري ما بين الخفارة والطوابير.
وكانت ثمرة هذا الجهد ترفيعه إلى رتبة عريف بعد مضي ثلاثة أشهر من تعيينه.
وبعد ستة أشهر تم ترفيعه إلى رتبة نائب يحمل على جانبه الأيسر ثلاثة أشرطه. ثم التحق بدورة مدفعية وحقق التفوق على زملائه، ثم انتقل الى الرياض وقد أخذ عوده بالخفاء عن القادة ليدندن عليه.
ورغم عمله الجديد في الرياض وهو تعليم الأفراد على المدفعية من خلال ما اكتسبه من خبرات كان يهتم بفنه ولا يترك آلة العود التي كانت أنيسة وحدته، وكان يطرب لفنه زملاؤه الأفراد والضباط وأصبح مشهوراً بينهم بفنه وإحساسه العالي.
وبعد عودته إلى الطائف ليعمل في المدرسة العسكرية واصل فنه مطوراً أسلوبه، وقرر تكثيف نشاطه بالمشاركة في الحفلات بعيداً عن جو المدرسة العسكرية.
وكان يحظى بإعجاب متذوقي الطرب حتى وصلت شهرته إلى الخليج العربي، ليسجل أولى اسطوانات أغانيه في مملكة البحرين.
في عهد المغفور له الأمير منصور بن عبد العزيز وزير الدفاع آنذاك عيّن قائدا لفوج المدفعية الثاني، وتابع دورات على أيدي خبراء ومدربين ومحاضرين عسكريين بريطانيين وأميركيين... تمت ترقيته إلى رتبة ملازم أول في عام 1367مــ وعين قائداً للفوج لسرية المدفعية المضادة للدبابات، بعد ذلك تمت ترقيته إلى رتبة نقيب عام 1370مــ للفوج الثاني المتحرك.
وهكذا استطاع المضي قدماً في دربه الشاق الطويل معتمداً على الله ثم على نفسه وجده واجتهاده، وترقيته الى رتبة نقيب تعد نقطة انطلاقة حقيقية لتحقيق أحلامه وأمنياته الفنية والعسكرية البعيدة المدى والتي لا تقتصر عند حد معين.
في إحدى المناسبات دعاه وزير الدفاع في ذلك الوقت الأمير منصور بن عبد العزيز رحمه الله وقال له لماذا لا تذهب لمصر وتتعلم فن الموسيقى وتتولى الأشراف على موسيقى الجيش فأجاب: «أتمنى ذلك يا طويل العمر ولكني ضابط مدفعية مضادة للدبابات»، فقال له الأمير منصور كلمة سكنت ذاكرته: «أنا لا أريد أن أوجه لك أمرا عسكرياً، أنا أريد أن أسدي لك نصيحة أخ.
اغتنم الفرصة واذهب إلى مصر لتعلّم الموسيقى طالما أنت هاويها وتجيد العزف والغناء لأنك ستحال في يوم من الأيام على التقاعد ولن تبيع مدافع ودبابات».
ومن ثم ذهب الى مصر ودرس الموسيقى في المعهد العربي للموسيقى وأسس فرق الموسيقى العسكرية وفرقة موسيقى الإذاعة والتلفزيون وبدأت رحلته الفنية الحقيقية...
شهادات
تحدث عنه العديد من عاصره من الفنانين، فقال الفنان الدكتور عبد الله رشاد إن «الحديث عن طارق العميد والزعيم والإنسان لا تكفيه بضعة سطور.
فيكفي أنه صاحب الريادة في خروج الأغنية والموسيقى السعودية للعالم العربي. يكفيني شرف أني أعدت تسجيل بعض أغانيه التي لاقت استحسانه وإعجابه.
كنا نتمنى لو أن طارق عبد الحكيم وجد التكريم قبل رحيله من الدنيا فهو الرمز والنواة التي أعطت الفن السعودي صورته المضيئة بين دول العالم».
الفنان حسن اسكندراني قال: «لم يكن فنانا وأستاذاً استقينا منه الكثير فحسب بل كان والداً... كان له دور في الصلح بين الناس، ولم تكن البسمة تفارق وجهه». ويرى أن طارق عبد الحكيم تاريخ يستحقّ التخليد من خلال تسمية منشأة أو شارع باسمه.
الملحن سامي إحسان من الرموز الفنية في تاريخ الأغنية السعودية ومن المقربين للراحل طارق عبد الحكيم. أبدى أسفه وحزنه على رحيل أستاذ وزميل وأخ قدم للفن السعودي وللوطن كل ما لديه من جهد ليرحل ويترك هامته واقفة كالمنارة.
يتناول سامي إحسان قصته مع الراحل عندما كان يعمل في التلفزيون والإذاعة فني صوت كما كان عازفاً وملحناً. وطالبته إدارة شؤون الموظفين بشهادة من اجل التخصص فلم يجد أمامه سوى العميد طارق عبد الحكيم الذي قال له: «من يطالبك بشهادة؟ أنت أستاذ في فنك».
ثم قدم له شهادة منه شخصياً «تفيد بأني لائق للعمل في فرقة الإذاعة والتلفزيون».
الفنان جميل محمود قال: «رحم الله أبا سلطان. هو علم من أعلام الموسيقى في العالم ومعلم تتلمذنا على فنه وثقافته وروحه المرحة.
أتذكر عندما كنت على سطح المنزل في مكة المكرمة أضع رأسي على الوسادة واستمع إلى صوت طارق عبد الحكيم في أغنية «يا ريم وادي ثقيف» التي لاقت رواجاً غير مسبوق في تلك الفترة.
عزاؤنا الوحيد في أبي سلطان تاريخه المرصّع بالذهب الذي يبقى مرجعا وعلماً تقتدي به الأجيال على مستوى العالم العربي».
الفنان محمد عمر الذي يعد من أوائل الفنانين السعوديين الذين أعادوا تسجيل وغناء أغنيات الراحل قال: «طارق عبد الحكيم تاريخ ورسالة وتجربة ومعاصرة وحضارة أمة. لا شك أن شخصيته على المستوى الإنساني والفني متفردة وتجعلك تتعلم من المنظومة الفكرية التي يحملها.
رحمة الله عليه كان قريباً من النفس يحب الخير للناس.
ويكفيني شرفا اني غنيت من ألحانه وتعلمت منه الشيء الكثير، فهو تاريخ أمة ومجد سعودي تفخر به الأجيال».
الفنان حسين قريش يرى أن رحيل طارق عبد الحكيم يشكل خسارة كبيرة للذائقة الفنية والثقافية، واصفاً إياه بالرمز والعلم والمنارة التي «استقينا منها كفنانين سعوديين وعرب... أبو سلطان من الفنانين والموسيقيين الذين تمنيت لقاءهم منذ كنت صغيراً، وعندما كنت أحد المشاركين في الملتقيات الثقافية مع رعاية الشباب سمع صوتي وأشاد بي وقال لي أنت أستاذ ولست مجرد مطرب هاوٍ وتمنى لي التوفيق. وكانت هذه شهادة اعتز بها إلى اليوم».
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024