تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

على طريق الحكايات الخرافية الألمانية

ثمة أماكن في هذا العالم تعيدك إلى سحر قصص الطفولة، وتحديداً إلى الحكايات الخرافية التي جمعها الأخوان غريم، فتجد نفسك في عالم القلاع المهيبة والمدن الساحرة من العصور الوسطى والغابات المسحورة والمعالم السياحية الآسرة. ومَن منا لا يرغب في رؤية كوخ «بياض الثلج» و«الأقزام السبعة»، أو قضاء ليلة في قلعة «الجميلة النائمة»، أو التجوّل في الشوارع التي جذب فيها «زمّار هاملن» الفئران بعيداً بمزماره السحري؟ كل هذه الأمور وغيرها متاحة على طول طريق الحكايات الخرافية الألمانية German Fairy Tale Route، الذي يمتد لمسافة 600 كيلومتر من بلدة هاناو في وسط ألمانيا إلى بريمن على بحر الشمال.


وصلتُ إلى مدينة لوبيك الألمانية للمشاركة في منتدى GNTB Incoming and Brand Summit 2023 الذي نظّمه المجلس الوطني الألماني للسياحة لتعريف الصحافيين من مختلف أنحاء العالم على كيفية تطوير السياحة المستدامة في ألمانيا والسبل المعتمدة للترويج للاستدامة. وكان لنا في الليلة الأولى لقاء قرب نهر ترايف حيث تلألأت المياه تحت أشعة الشمس وانزلقت القوارب الصغيرة والسفن السياحية في مياه النهر. وفي “ركن الرسّامين” الحالم على ضفة النهر، استمتعنا بمشهد المدينة القديمة الجميلة والكاتدرائية المهيبة.

معالم تاريخية

عند زيارة لوبيك، الملقّبة بـ”مدينة الأبراج السبعة”، لفتتني الهندسة المعمارية في معالمها التاريخية التي تعود إلى العصور الوسطى، بما في ذلك بوابتان من بوابات المدينة الأصلية، وكنيسة سانت ماري الأثرية التي تهيمن أبراجها الشهيرة على الأفق.

سرتُ مع زملائي في شوارع لوبيك، واكتشفنا المدينة القديمةAltstadt المحاطة بنهر ترايف. تضمّ المدينة القديمة العديد من المباني ذات الطراز القوطي، مع شوارع ضيّقة مرصوفة بالحصى، ومناظر طبيعية خلاّبة، وبيوت أثرية تعود إلى مئات السنين، مما يجعل المرء يشعر أنه في حضرة التاريخ المهيب.

خلال الجولة، استرحنا في أحد المقاهي وتذوّقنا حلوى المرتسيبان التي تشتهر المدينة بصناعتها، والتي يتم تصنيعها باللوز والسكر وماء الورد، حتى أن شهرتها وصلت الى بلاد الشام وأطلقوا عليها اسم “المرصبان”.

زرنا بعدها بوابة هولستينتور التي تم بناؤها في عام 1477، فهي معلم شهير جداً يحرس المدخل الغربي للمدينة القديمة. تشتمل البوابة على برجين مستديرين يحيطان بالممر مع أبراج زخرفية أصغر على الركيزة. كما تتميز البوابة بتصميم Lübeck’s North German Brick Gothic، ولذلك تبدو هذه البوابة بمثابة الرمز الخاص لمدينة لوبيك.

لا بدّ أيضاً من زيارة متحف سانت آن ومعرض سانت آن للفنون، حيث اختبرنا روعة غرف المعارض الحديثة والتاريخية، والساحات والحدائق، والدير القوطي الذي يعود تاريخه إلى عام 1512. هنا، تعرّفنا على معظم تاريخ لوبيك ووجدنا أنفسنا أمام كنوز ثقافية لا تقدَّر بثمن، ولا سيما المجموعة الفريدة من الأعمال الفنية الكنسية المعروضة في موقعها الأصلي للدير القديم. أما الطابق العلوي في دير سانت آن، والذي يعود إلى أكثر من 500 عام، فيضمّ 25 قاعة تعرض أنواع المفروشات التي استخدمها سكّان لوبيك، والزخارف التي اعتمدوها لتزيين بيوتهم، إضافة إلى نماذج تستعرض ملابسهم واحتفالاتهم وحياتهم اليومية.


هاملن والمحطة التالية

بعد انتهاء المنتدى في لوبيك، انطلق الصحافيون إلى وجهات مختلفة في ألمانيا، تحدّدت وفق البرنامج الذي اختاره كل واحد منهم. وبما أنني اخترتُ الغوص في أروقة الحكايات الخرافية بين هاملن وكاسل، غادرت لوبيك متوجهةً إلى هاملن، موطن الحكاية الخرافية الشهيرة “زمّار هاملن” Pied Piper of Hamelin، حيث كان في استقبالنا “زمّار هاملن” شخصياً ورافقنا بجولة في المدينة وسرد لنا بالتفصيل حكاية الزمّار.

تتحدث الحكاية، التي كتب أحداثها الخيالية الأخوان غريم، عن مدينة هاملن التي غزتها الجرذان فجأة بأعداد كبيرة حتى ضاق السكان ذرعاً بها وأوشكوا بسببها على ترك منازلهم. وفي مسعى أخير لإنقاذ المدينة، أعلن رئيس بلديتها عن مكافأة كبيرة تقدّمها المدينة لكل من يستطيع تخليصها من أسراب الجرذان. ظهر عندئذ عازف مزمار زعم أنه قادر على تخليص المدينة من جرذانها بواسطة ألحان مزماره السحري. سخر سكان هاملن من ادّعاءات الرجل، لكنهم ذُهلوا عندما شاهدوا الجرذان تغادر جحورها بالجملة على وقع الألحان السحرية لتمضي جميعها خلف عازف المزمار الذي قادها نحو ضفة نهر كبير خارج المدينة وجعلها تقفز إلى مياهه لتغرق عن بكرة أبيها.

وعندما رفض سكان هاملن مكافأة عازف المزمار على جهوده، قرر أن ينتقم منهم فوقف عند بوابة المدينة وبدأ يعزف ألحانه السحرية من جديد، التي كان لها وقع سحري على أطفال هاملن الذين تركوا منازلهم وهرولوا نحو عازف المزمار. وكما حدث مع الجرذان، قاد عازف المزمار الأطفال إلى خارج المدينة، وأخذهم إلى جبل كبير عند أطراف مدينة هاملن واختفى هناك مع الأطفال إلى الأبد.

رافقنا “زمّار هاملن” في جولة على متن السكوتر الكهربائي للتعرف على المدينة القديمة ومختلف شوارعها ومقاهيها، ولا سيما شارع Bungelosen strasse الذي يُقال إنه آخر مكان شوهد فيه الأطفال قبل اختفائهم، ولهذا السبب يمتنع الأهالي عن عزف الموسيقى في هذا الشارع، وهو تقليد استمر منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا.


قصر Schloss Hamelschenburg

المحطة التالية كانت في قصر Schloss Hämelschenburg، المعروف أيضاً باسم قلعة Hämelschenburg، وهو عبارة عن قلعة رائعة من عصر النهضة تقع في منطقة Weserbergland، وتشتهر بهندستها المعمارية المحفوظة جيداً وأهميتها التاريخية.

التقينا بالبارون هنري فون كلينك، سيد القصر، الذي رافقنا بنفسه في جولة على مختلف أرجاء القصر وشرح لنا كيف تمّ تشييد القصر في القرن السادس عشر لعائلة النبلاء فون مونشهاوزن von Münchhausen ، الذين كانوا ملاّكين بارزين في المنطقة. يجمع تصميم القصر بين الطراز القوطي القديم وأوائل عصر النهضة، بحيث يظهر الانتقال من حصون العصور الوسطى إلى القصور الكبيرة.

القصر محاط بخندق مائي مع جدران دفاعية مهيبة وأبراج وفناء خارجي كبير. وتلفتك في الجزء الخارجي من القصر الزخارف الخشبية المنحوتة بشكل معقّد، فيما الواجهات مزيّنة بمنحوتات وأشكال زخرفية تُظهر المهارة الحِرفية البارعة في تلك الحقبة.

وفي جولة على غرف القصر، لفتتنا الغرف الفخمة المفروشة بمجموعة بارزة من أثاث عصر النهضة والمنسوجات والأعمال الفنية التي تعطي لمحة ثاقبة عن نمط حياة العائلات النبيلة التي عاشت فيها.

اليوم، يقف قصر Schloss Hämelschenburg شاهداً على التراث المعماري والثقافي للمنطقة، ويجذب الزوّار من كل أنحاء العالم الذين يأتون للاستمتاع بجماله الخالد، والتعرف على تاريخه وتجربة سحر حقبة ماضية.


مسك الختام في كاسل

في اليوم التالي، كان لا بدّ من زيارة مدينة كاسل في ولاية هسن، التي هي مدينة الأحلام والأساطير وموطن القصص الخرافية، والتي تدين بالكثير من شهرتها الثقافية إلى تراث الأخوين غريم. فقد عاش الأخوان غريم بين عامَي 1798 و1841 في كاسل، وجمعا هناك حكايات الأطفال، مثل: “بياض الثلج”، “الأميرة النائمة”، “الأقزام السبعة”، “سندريلا” و“ذات الرداء الأحمر” وغيرها الكثير... كما شرع الأخوان غريم في إعداد قاموس اللغة الألمانية.

لذلك، تم تشييد متحف “غريم فيلت” Grimmwelt Kassel، وهو مركز معارض لأعمال الأخوين غريم وحياتهما.

زرنا المعرض وتعرّفنا عن كثب على العروض التفاعلية التي تشرح كيفية إعداد قاموس اللغة الألمانية، وحكايات الأطفال وحياة الأخوين جاكوب وويلهلم غريم. المركز مقسّم إلى 25 منطقة، وتبلغ مساحة المبنى حوالى 4000 متر مربع موزّعة على خمسة طوابق، بينما تبلغ مساحة المعرض 1600 متر مربع.

والواقع أن قصص الأخوين غريم لم تأتِ من فراغ، إذ استوحى جاكوب وويلهلم أعمالهما من الطبيعة الغنية والقصور والقلاع التي تملأ هذه المنطقة، وسط سلاسل الجبال والحدائق المختلفة، بحيث يشعر المرء أنه دخل إلى عالم الحكايات الخرافية.


حديقة “ستات بارك كارلسو”

بعد الانتهاء من زيارة متحف “غريم فيلت” Grimmwelt Kassel، توجّهنا إلى حديقة “ستات بارك كارلسو” Staatspark Karlsaue التي تمزج بين عناصر الحديقة الباروكية والمساحات الطبيعية. يعجز اللسان عن وصف جمال هذه الحديقة التي تحتوي على الكثير من البحيرات والقنوات المائية والنوافير الاصطناعية، علماً أنه تمّ بناء قلعة Orangerie بمثابة حديقة شتوية. تدعو حديقة كارلسو ذات المناظر الطبيعية زوّارها للتنزّه وممارسة الرياضة والاكتشاف على مساحة 150 هكتاراً. وقد تمّ تصميمها بمثابة حديقة باروكية متناظرة فيها ممرات وقنوات مائية، وأُعيد تصميمها لتصبح حديقة ذات مناظر طبيعية على الطراز الإنكليزي في نهاية القرن الثامن عشر. تشكّل الحديقة وما تضمّه لوحة فنية خلاّبة وكأنها رُسمت بأيدي أشهر الفنانين.


“بيرجبارك فيلهلمشوه”

تضمّ مدينة كاسل أيضاً ثلاثة قصور وضعتها “اليونسكو” على قائمة التراث الإنساني، من بينها قصر “مرتفعات فيلهلم” أو كما يُنطق بالألمانية “فيلهلمزهوهه” Wilhelmshöhe، والذي تعتبر حديقته من أكبر حدائق المرتفعات في أوروبا، ومن أهم مزارات المدينة، حيث تجمع الحديقة بين مدرستين فنّيتين هما الباروك الذي يظهر في الشلالات في أوكتاغون، والمدرسة الإنكليزية التي تظهر في الحدائق الفسيحة. أما الـ”جيفاشهاوس” أو “بيت النباتات” فهو من أول المباني التي تعتمد على الصلب والزجاج في أوروبا، ويتميز بمجموعات رائعة من زهور الكاميليا والنخيل والنباتات الاستوائية.

تم إدراج هذه الحديقة في قائمة مواقع التراث العالمي الثقافية والطبيعية، وقررت “اليونسكو” أن تكون الحديقة والمتنزّه مثالاً ممتازاً للهندسة المعمارية الأوروبية وبستنة المناظر الطبيعية. تمتدّ الحديقة على مساحة تقارب الـ 560 هكتاراً، وتحديداً من نُصب هرقل المهيب إلى ما بعد نظام الشلاّل الذي يبلغ طوله 350 متراً إلى قصر “فيلهلمشوه” وما وراءه، حيث كان القصر بمثابة سكن صيفي للمزارعين وناخبي كاسل حتى عام 1866، ولاحقاً للملوك البروسيين والقياصرة الألمان. ولعلّ تمثال هرقل المثمّن هو أحد أشهر معالم الحديقة، علماً أنه يمكن رؤية التمثال في معظم أنحاء المدينة وخارجها.

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078