لينا هويان الحسن تُنعش الرواية التاريخية في "أنطاكية وملوك الخفاء"
تستهلّ لينا هويان الحسن روايتها "أنطاكية وملوك الخفاء" بعبارة : "كلّنا ملكٌ للذاكرة"، أي تنحاز الكاتبة ابتداءً من الصفحة الأولى الى المناخ التاريخي، بصفته خياراً فنياً وجمالياً يبيح لها أن تتكئ على خرافة تتعلق بربّة أنطاكيا الغامضة "تيخى" التي واجهت نهر العاصي المتمرّد والذي كان قد اتجه جارفاً إلى شمال سوريا، وهناك على تخوم المدينة دارت المعركة بين الذكورة متمثلةً بالنهر الطائش والأنوثة المتجسّدة بـ "تيخى" الملقّبة بـ"أمّ النسور" ولوت عنق النهر وأرغمته على أن ينعطف، ويصبّ في البحر المتوسط.
تعرّفنا الكاتبة خلال الصفحات الأولى بالخرافات المؤسِّسة لذاكرة المدينة، وبعدها تبدأ الحكاية الواقعية ضمن المناخ التاريخي للمدينة التي كان يحضر الأتراك لسلخها عن وطنها الأم "سوريا". تأخذ العرّافة الصابئية، الملقبّة بـ"الهدهدية"، صوت الراوي العليم، وتحكي للقارئ قصّة غراميات قصر الباشا آل أرشدان منجوك، والعلاقات العاصفة التي ربطت بين التوائم أبناء العم، وتدخل حبكة "الحبّ" في النسيج وتعقّد الأحداث وتبدو العواطف الجامحة هي المحرّك الحرّ واللاعب الذكي بين الأبطال.
تشتغل الكاتبة على التقاط البُعد الغائب في الكتابة التاريخية، عبر المعلومة المجهولة والتي تغفلّها المصادر التاريخية لأسباب مجهولة. تبدأ السيرة اعتباراً من القانون الذي أصدره كمال أتاتورك "قانون القبّعات" والذي أرغم فيه الشعب التركي على استبدال الطربوش بالقبّعة. وبسبب هذا القانون هاجرت بعض العائلات المحافِظة، ووصلوا مدينة حلب مع ثرواتهم. وبسببه حدثت اغتيالات منظّمة لبعض الشخصيات التي رفضت القانون. تضعنا الرواية في قلب العمق العاطفي والوجداني، الذي تتجاوزه المصادر التاريخية عادةً، وتعيد خلق الأحداث، عبر الإمساك بنقاط التحوّل والتغيّر في المجتمع آنذاك، وانعكاساته على الإنسان من خلال إعادة سرد التاريخ وإعمال الخيال الروائي في الأحداث الواقعية والتي حدثت بالفعل، لتمنحنا جرعة معرفية ومجهولة ومنسية عما حدث في الواقع، وأغفله التاريخ، مثل القانون الذي أصدره أتاتورك بحق الأقليات (مسيحيين ويهوداً،) من مصادرة أملاكهم وتهجيرهم وفرض غرامات مالية تفوق قدراتهم كان نتيجتها موت الكثيرين منهم في أعمال السخرة، وكان بينهم صانع النبيذ الأنطاكي "سيزار الفايز" أحد أبطال الرواية الذي بدأ حياته بسبب لعنة الهدهد التي تقول إنّ من يقتل هدهدًا يبتعد عن أهله سبع سنوات. وبالفعل يُسجن في جزر تريمتي الإيطالية بسبب شحنة أسلحة تذهب من تركيا إلى ليبيا ويُتهم ظلماً ويقضي بأعمال السخرة القاسية سنتين قبل أن تنتشله السيدة الإيطالية مالكة كروم العنب والتي قصدت السجناء لتوزّع عليهم كتاب "الإنجيل" ودُهشت لوجود السجين المسيحي وسيم الملامح ووقعت في غرامه، من دون أن تنجح بجعل سيزار ينسى غرامه لفهرية خانم ابنة ممتاز بيك وكل حكايات وطنه أنطاكيا.
رغم الاشتباكات العشقية الغاشمة والقاسية التي يحرّكها ويفرضها كلّ من "كيوان" وشقيقه التوأم "عوني"، على أرض قصر "منجوك"، تحضر المرأة المنتصرة والقوية و"الذئبة السعيدة" المتمثلة بـ"عدوية زيغول، كنموذج أنثوي صارخ للنساء اللواتي واجهن عصوراً طويلة من ظلم المرأة وحرمانها من حقوقها. وتتماثل "عدوية" مع "تيخى" التي لوت عنق نهر العاصي، وتفرض "عدوية" الملقّبة بـ"دادا"، حضورها الحاسم الذي يدير دفّة السرد ويتابع القارئ مصائر الأبطال عبر لغة طوّعت أدواتها الفنية لإخضاع الحدث التاريخي للعبة التشويق السحرية، عبر تصعيد الأحداث والوصول إلى جريمة قتل الخانم "المحبوبة، فهرية"، المرأة التي تنازع عليها كل الرجال ورماها أحدهم في النهر الذي يتشهّى أجساد النساء ويتمنى قتلهن منذ اليوم الذي انتصرت عليه ربّة انطاكيا "تيخى"... يظن الجميع أنّ الخانم المحبوبة قد رمت نفسها في النهر ولا تتكشف الحقيقة إلاّ في الصفحات الأخيرة عبر لحظة بوح حزينة تجتاح "عدوية" وهي تتجول في شوارع حلب وتستوقفها صورة للخانم تزيّن واجهة أقدم محل تصوير في حلب.
نعلم أنّ الرواية التاريخيّة تأخذ مكانها بصفتها عملاً فنياً يتّخذ من التاريخ مادة للسرد، وإشباع فضول القارئ المعاصر تجاه الماضي، لكن هنا في (أنطاكية وملوك الخفاء) تتوارى المادة التاريخية تماماً خلف ملاءة الميثولوجيا التاريخية المؤسِّسة للخريطة الأسطورية الشامية عبر التذكير خلال السرد بـ "ملوك الخفاء" الذين يحرّكون الأبطال عبر الكواليس، يتزعمهم "شام" الغامض الذي زار كوكب الأرض وعشق "عشيرة" ربّة الحب والشبق، وبسبب غرامهما تحركت الجبال وتشكّلت غابات وأنهار مدينة أنطاكيا التي كانت عاصمة المشرق ذات يوم وواجهت زنوبيا الرومان على تخومها.
وقد جاء في الرواية: "يجب أن نعامل الحبّ كالملوك، ننحني أمامه، نخشاه، ونجلّه...". لربما ليست الرواية الأولى التي نلمس من خلالها انحيازاً خفياً ومدروساً للكاتبة، الى العائلات الارستقراطية والملكية، وقد بدا ذلك واضحاً في روايتها "ليست رصاصة طائشة تلك التي قتلت بيلاّ" عبر استحضار قصة الأذرية "بيلاّ" الهاربة من البلاشفة، وحال العائلات النبيلة والبورجوازية بعد الوحدة بين مصر وسورية وتطبيق قرارات جمال عبد الناصر قي التأميم والتي يتضح رأي الكاتبة السلبي بتلك المرحلة وبالتجارب الاشتراكية ومآلاتها وانعكاساتها. وليس جديداً تركيزها على الثغرات والهوامش المنسية، وإضاءة المناطق المُعتمة في تاريخ سوريا، بواسطة الفن الروائي، المحمّل بالتاريخ، وقدرة الكاتبة على إثارة ذهن ومشاعر القارئ، عبر أعمال أدبية تتقاطع بشكل واضح مع الهويّة السورية التاريخية الثقافيّة، الجامعة لمختلف الانتماءات والأديان والطوائف، نستذكر هنا استحضارها لشخصية بوتان الكردي في رواية "ألماس ونساء" وتعريفنا بكامل القصة الكردية من دون غطاء "المظلومية" المعتادة التي يتعامل بها من يتناول مثل هذه القضايا.
مع رواية "أنطاكية وملوك الخفاء" تكرّس لينا هويان الحسن لوناً أدبياً عُرفت به نتاجاتها، تروي بغرض الحكاية والامتاع مع الغزل على محور مهم في تدوين التاريخ وحفظ تفاصيله الجزئية المهملة لصالح انتصار الروائي للمنسي والمهمش، مع صياغة أنثوية، من دون الوقوع في فخ "النسوية" النمطية، من خلال انتقاء المرأة القوية والذكية التي يمكنها تحويل اللعبة دائماً لصالحها، لتكون رواية "أنطاكية وملوك الخفاء" رواية المرأة المنتصرة برعاية الملوك الذين لاينال منهم الزمان.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024