راينغو المقاطعة الألمانية التي يروى الراين جمالها
راينغو Rheingau. ماذا يمكن أن تكون عليه هذه المنطقة التي تبعد عن وسط فرانكفورت حوالى الساعة في القطار؟ ماذا تعني زيارة كروم العنب في موسم القطاف؟ هل ستكون هذه المنطقة جميلة كما فرانكفورت؟ وحده الوصول إليها سيجيب عن أسئلتي... في صباح اليوم الثالث في فرانكفورت، اجتمعنا في بهو الإستقبال لنستقل الحافلة التي توصلنا إلى محطة القطار القريبة من فندق جميرا القريب من المطار ومحطة القطار وأجمل ما فيه إنه في قلب وسط فرانكفورت التجاري.
سباق الزمن نحو عالم الراين بجماله المترف
وصلنا إلى محطة القطار قبل 25 دقيقة من الوقت المحدد لانطلاق صفارته إلى راينغو، وتحديدًا إلى بلدة Rudesheim. أردت وسامية أن نشتري بعض الأشياء، ثم تبعتنا ميسا والريم ولبنى واتفقنا أن نلتقي عند البوابة 24، المهم أن لبنى لم تتمكن من ركوب القطار، فهنا المواعيد لا يمكن التلاعب بها، وإذا تأخرتِ ثانية واحدة يفوتك القطار، ليس قطار الزمن وإنما قطار راينغو لاين، لذا من الأفضل الجلوس في إحدى مقطوراته بدل التذاكي على مواقيته.
في القطار أخبرتنا مفتّشة التذاكر أن رجلاً يبحث عنا. لقد كان السيد وايل مرشدنا السياحي في منطقة راينغو.
مرت ال57 دقيقة من دون أن نشعر بالوقت الذي دهمنا وحرقناه بأحاديث السيد وايل، فقد كان رجلا ثمانينيًا يتمتع بروح النكتة ولديه طاقة وعشق للحياة جعلاني أشعر بالخجل من نفسي إذا ما تذمرت، إذ يكفي أن تتحدثي مع وايل حتى تتمني أن تصبحي متفائلة مثله.
كروم العنب وحكايات نسّاك الدير
وأخيرًا وصلنا إلى «رودشايم» ولم يكن في انتظارنا السائق، السبب كما قال زحمة سير. استغربنا جميعًا! أين الزحمة والبلدة تبدو هادئة إلى درجة يشعر معها المرء بضجيج الصمت لا الزحمة؟! دارت بنا الحافلة وسط طبيعة غنّاء متوجة بكروم العنب نحو بلدة «ألتفيل Elteville.
كيفما جالت عيناي كانت العرائش فوجدتني أردد «هل جلست العصر مثلي، بين جفنات العنب والعناقيد تدلّت كثريّات الذهب»، أغنية فيروز «أعطني الناي وغنّي» لجبران خليل جبران. التوقف الأول في هذا الجمال الفردوسي كان في دير أبرباخ الذي تحوّل معلمًا سياحيًا، جلنا في صومعاته وغرفه.
شيّد هذا الدير عام 1136 وفيه صُوّر شتاء عام 1985 / 1986 فيلم The Name of the rose بطولة شون كونري. ويتميز الدير الواقع عند شرقي نهر الراين بالهندسة المعمارية الرومانية والقوطية التي تجعله واحدًا من أهم المعالم التاريخية في ألمانيا.
قصص هذا الدير تعبّر عنها أجنحته وغرفه، فقد كان الفلاحون يعملون في كروم العنب، فيما الرهبان يمضون عمرهم فيه. فلحظة كان يختار أحد الأشخاص التنسك كان يدخل الدير ولايخرج منه إلا في حالة الوفاة.
جلنا في الجناح الكبير الذي كان ينام فيه النسّاك، الأسرّة خشبية وأحيانًا ينامون على الأرض، ويتناولون وجبة طعام واحدة ويمضون يومهم في الصلاة والتضرّع إلى الله. يبدأ يومهم بعد الثانية عشرة منتصف الليل.
فعلاً حياة تقشف وقاسية، وعندما سألت ماذا لو غيّر الناسك رأيه! فكان الجواب: مستحيل فهو اختار وقراره لا رجعة فيه.
رودشايم بلدة إفتراضية في عالم واقعي
بعد جولة الدير والتجوال بين جدران التنسك وشظف العيش، عدنا إلى بلدة رودشايم، لتناول الغداء في مطعم «شتايبليرز روشفانغ» Stiebler’s Rauchfang التابع لفندق «سنترال هوتيل» الموجود في وسط البلدة.
هنا شعرت بأنني وسط بلدة افتراضية، البيوت القرميدية وشرفاتها التي تتدلى منها أصص الزهور بكل الألوان والأزقة المرصوفة بالحجارة، والنسائم الخريفية العليلة التي بدت لي تتطرق بلطف على الشبابيك وفي الوقت نفسه تداعب وجهي، كل شيء مثالي إلى حد الخيال.
عند مدخل المطعم استقبلنا صاحبه برفقة ابنه المراهق. ديكور المطعم وألوانه ومدفأته تبعث شعوراً بدفء الإستقبال.
الغالب في هذه البلدة طابع الأعمال العائلية، إذ يعمل في الفندق ومطعمه الزوج والزوجة والأبناء، ونقرأ في عيونهم الفخر بما يقومون به، مما يشعرك بأنك تزورين عائلة في بيتها، لا مكانًا تجاريًا.
التأرجح فوق كروم العنب في موسم القطاف تجربة لا يمكن تفويتها
انتهى الغداء وعبرنا ساحة البلدة التي كانت تستعد لمهرجان العنب، فأكشاك الخشب كانت تتأهّب للإحتفال.
مشينا نحو محطة المقطورات الهوائية Cable car وكانت سامية والريم خائفتين من التجربة، ولكن شجعتهما بأنه لا يمكن تفويت هذه الفرصة.
كانت المقطورة فعلاً هوائية لا شبابيك فيها بل مقعدان. ركبت وسامية المقطورة التي بدأت تسير ببطء على ارتفاع نحو 100 متر فوق كروم العنب.
كان موسم القطاف، فقد بدا المزراعون يستمتعون بالموسم، ومشهد راينغو يخطف الأنفاس، وأغنية وديع الصافي «جنّات على مد النظر» أدندنها في رأسي. الألوان المتدرّجة من الأخضر إلى الأصفر تستريح عند ضفتي نهر الراين. بالفعل مشاهد وألوان يعجر أعظم الرسامين عن تجسيدها في لوحة زيتية.
المشي في متنزّه نايدرفالد على خطى قصص الأطفال الخيالية
وصلنا إلى أعلى القمة بهدوء، وبدأت مغامرة المشي في متنزه نايدرفالد Niederwald الذي هو أقرب إلى الغابة، ووايل لم يتوانَ عن إدهاشنا بتفاصيله، وتاريخه، فقد شيّد هذا المتنزّه أحد أثرياء البلدة أواخر القرن التاسع عشر، وأراد أن يكون مكانًا للتسلية.
بدأنا المشي في المتنزه حيث عند كل منعطف يستوقفنا مشهد بانورامي لمدينة راينغو، ويروي لنا وايل حكاية، ينهيها بطرفة. خلال المشي واتباع الإشارات الموجودة لم أعرف لماذا خطرت في بالي قصة «هانسل وغريتل» وتيههما في الغابة.
فسألت وايل ما إذا كنا سنلتقي قصر الحلوى السحري كما في القصة، فضحك وقال لا ولكن هناك كهف العجائب، الذي لم ندخله، وهو عبارة عن كهف تتلاعب فيه الأنوار بسبب الزجاج المرصوص في جدرانه وسقفه.
توقفنا عند تمثال جرمينا الذي يجسد وحدة ألمانيا وقد استغرق نحته 12 عامًا منذ عام 1871 حتى 1883. لا يمكن إلا أن تقفي مدهوشة أمام هذا المعلم التاريخي نظرًا إلى ضخامته وبراعة نحّاته وحرفيتة ودقته في النحت، وهو موجه نحو النهر. انتهى المشي عند محطة مصعد الكرسي الذي سينزلنا إلى ضفّة النهر.
المغامرة تتكرر كما المقطورة الهوائية ولكن هذه المرة على كرسي إخترق من العلى الغابة الوارفة الأشجار، فشعرت بأنني أنزلق نحو الجمال بهدوء.
بعد 15 دقيقة وصلنا إلى أسمانهاوتسن Assmannshausen حيث تكرر مشهد وسط بلدة رودشايم ببيوتها العتيقة الجميلة وأزقتها المرصوفة المتدحرجة نحو ضفة النهر.
وسرنا نحو نقطة إنتظار العباّرة لنعود نهرًا إلى رودشايم. أحيانًا تعجز العبارات مهما كنا مبدعين عن وصف الجمال الذي صنعه الله بسخاء ليكرم علينا محبته.
فالعبّارة لم تكن تخترق فقط نهر الراين بل تبحر في عالم مترف يحتشد فيه كل الجمال.
في كواليس معمل شراب العنب
طوال سيرنا إلى معمل شراب العنب الخالي من الكحول لم نتوقف عن ذكر عبارة ما أروع هذه المدينة. ووايل يساهم في دهشتنا فيدخلنا في أزقة تتجاور فيها البيوت الجميلة المغلفة بالدوالي والزهور إلى درجة كنت أخال أنني في متاهة خيالية أو في «أليس في بلاد العجائب».
أخيرًا وصلنا إلى مدخل مبنى جميل يتوّجه برج قديم، استقبلنا عند المدخل كارل يونغ وهو صاحب المعمل وقدّم لنا شراب العنب الخالي من الكحول، وسألنا هل نحن مستعدون لجولة في كواليس المعمل.
حيث تعرفنا على أسلوب تقطير شراب العنب وطريقة تنقيته من الكحول. وهذا الشراب بحسب صاحب المعمل يصدّر إلى دول الخليج والبلاد الإسلامية.
بعد انتهاء جولة المعمل أثار البرج فضول زميلات الرحلة، فدعانا السيد كارل للصعود إلى قمته، السلم اللولبي دوّخنا بدرجاته ال150 وظننا لوهلة أن صعودنا لا نهائي إلى أن وصلنا إلى السطح، وهنا عادت عبارة «واو هل يعقل أنه يوجد على الأرض مدينة مترفة الجمال كهذه؟!»، ورغم أن النزول كان أسهل فإنه كان أيضًا مدوّخًا.
ليل رودشايم... تَقَاطُع الصمت والموسيقى
دخلنا أزقة رودشايم وكان الليل بدأ بإسدال ستاره، فيما المدينة لا تزال تعيش مهرجان العنب. فالحشود كثيرة وكلّ يحتفل على طريقته، فيما نحن شعرنا بالجوع بعد سير على القدمين استمر أكثر من ثلاث ساعات.
وقفنا عند بوابة بيت جميل لا يقلُّ روعة عن أقرانه ودعانا وايل للدخول، فهنا في مطعم تابع لفندق «زوم غرونين كرنتز» Zum Grunen Kranz سوف نتناول العشاء.
البداية كانت الحساء الذي لا يمكن تفويته في ألمانيا، أما الطبق الرئيسي فكان غراتان الخضار المكسوّ بالجبن.
يتميز المطعم والفندق بهندسة داخلية فيها من الدفء ما يشعرك بأنك في منزلك، أما الهندسة الخارجية فهي ألمانية بامتياز، بواجهته الخشبية وقرميده والأصص التي تتدلى منها الزهور. كل شيء يوحي بالتناغم مع طبيعة المنطقة الساحرة.
انتهى العشاء، وعدنا سيرًا إلى محطة القطار، خلال العودة ولجنا في أروقة المدينة وأزقتها، فكان بعضها صامتًا وادعًا يراقب النجوم وهي تتحدى سحب الخريف الليلية، فيما كان بعضها يحتفل بالليل.
لفتنا جميعًا رواق تتجاور فيه الملاهي الليلية التي تزدحم برواد جلّهم في منتصف العمر يرقصون ويحتفلون بفرح، وكأن العمر عندهم توقّف عند سنين شبابهم، يضحكون وينشدون مع المغنية ، مما جعلني أتمنى أن أصل إلى سنهم وأبقى على روح الشباب تحرّكني بفرح وتفاؤل كما يفعلون.
وصلنا إلى محطة القطار وهي محطة قديمة أعيد ترميمها، كانت خالية من الناس ولكن بعد لحظات لم ندرك كيف احتشد فيها المسافرون. كان وايل برفقتنا وكانت الابتسامة مرسومة على محياه رغم التعب، مما جعلنا نتحاشى التذمّر وعبارات التعب، فهذا الثمانيني لم يشكُ فكيف بنا نحن الشابات.
ودّعت صباح فرانكفورت وكانت غيوم الخريف بدأت الإحتشاد، وكأنها كانت تنتظر رحيلي لتعود إلى دورتها الطبيعية في مدينة تفتخر في كل تفاصيلها وضواحيها بجمالها وأناقتها. مدينة أدخلتني في عالم ألماني متمسك بوفاء لتاريخه الذي أعاد بناءه رغم أنف الحروب وقسوتها.
شكر خاص لهيئة السياحة في فرانكفورت وراينغو، وطيران لوفتهانزا وفندق جميرا- فرانكفورت على حسن الضيافة.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024