تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

أمومة مع وقف التنفيذ.... حكاية أمّ لم تنجب

أمومة مع وقف التنفيذ.... حكاية أمّ لم تنجب

كان حفل الزفاف مختصراً... أردناه متواضعاً، يشبهنا. وبلا صخب انتقلنا من ضفة إلى أخرى وبدأنا نغزل الأحلام معاً، نخطّط: الزواج، الاستقرار، الطفل، الحياة العائلية السعيدة، قدر المستطاع. كان حضور الحفل هزيلاً، لكن الأمنيات كانت أكثر امتلاءً. وفي الأشهر الأولى احتفينا بعالمنا الجديد، بتجدّد ولادتنا، بانقلابنا على زمن العازبين وقواعدهم... أصبحنا واحداً أو اثنين آخرين. وبعد عام بدأنا نحلم بثالثنا، نتحدث عنه في أمسياتنا ولكن...


بعد عام ونيّف

مرّ عامنا الأول ناعماً، انسيابياً قبل أن يتحول الحلم إلى سؤال: لمَ لم يحدث الحمل بعد؟ وبدأت أفكارنا تؤرجحنا، تذهب بنا من أفق الأمل إلى جدار الخوف. لمَ لم يحدث الحمل بعد؟ بدأنا نسأل ويسأل الآخرون. يسأل الآخرون فتتّسع فوّهة البركان في داخلنا، تتدافع الحِمم، تتجه إلى أعلى قبل أن تهدئها كلمة عِلم ينطق بها الطيبب: "ما بالكما؟ لمَ العجلة؟ ما زال الوقت مبكراً. أنتما عروسان، فلتعيشا أيامكما، فلتضحكا، فلتمرحا، فلتسمتعا بكل ما تفعلان".

ما زال الوقت مبكراً. نهدأ، نناقش الأمر في جلسة مسائية، نتفق على خطوط عريضة. وقبل النوم نرسم على شفاهنا ابتسامتين تخبّئان قلقاً. لكن بعد عام ونيّف لم يعد الحلم مضحكاً، بات حقيقة، بات واجباً. بعد عام ونيّف ظهر الجرح، كان مجرد خدش، لا يؤلم، علامة تُفشي سرّاً ما ولا تزعج إلا قليلاً. ثم بدأ الخدش يحفر خطّه في قلب كلّ منا، يمتلئ قيحاً... "هل تخبّئان شيئاً؟" يسأل الجميع. وعند النفي يتحول السؤال إلى دعاء تعتريه الشفقة... الشفقة التي تزيد الجرح تحكّماً بالأوردة، بالأفكار، بالأويقات التي نمشيها معاً... في داخلنا تعلو هتافات القلق، الخوف من "ألاّ ننجب". وفي الخارج تهبّ عاصفة من النصائح: عليكِ أن تأكلي كذا، أن تفعلي كذا... ولا تفعلي كذا، انتبهي، احذري. وهل؟ وماذا؟ ولماذا؟ وكيف؟ ووسط هذا الإعصار، يطفو مركب الأمل. نعم، الطريق تزداد وعورةً، لكننا تشبّثنا بالأمل... الأمل... سرّ الحياة.

بعد عامين

في سلسلة حياتنا حلقة ضائعة. بتنا نبحث عن ذاتنا المفقودة، عن رضى أشهر الزواج الأولى. ما الذي حدث؟ كأن كلّ ما يجمعنا اختُزل بتلك النطفة المنتظَرة والتي... لم تأتِ بعد. وبات لدينا أمل يتجدّد في موعد ما من كل شهر قبل أن ينطفئ ويغيب وينضم إلى قافلة مواعيد أخرى أفلت. وفي الخارج عاصفة الأسئلة تصبح عاتية، تمزّق أشرعتنا، تهزّ مركبنا، تهدّدنا في كل مرة بالسقوط في لجّة لا عودة منها. الأهل يسألون... كل الناس يسألون. الجارة، سائق التاكسي، جليسة المصادفة، الزميلات، الصديقات،... ويتحول كل سؤال إلى جمرة لا تحرق إلا موضعها. هم يسألون ويمضون إلى الأمام فيما أتسمّر وأفكاري في مكاننا وفيما الزمن يتجمّد فيصبح الطفل الذي لم يأتِ بعد سيّد كل شيء، التصورات، الأمنيات، التوقعات....

بعد عامين ونصف العام

حانت ساعة الحقيقة. لم يعد علينا الانتظار. لم يكن كلام الطبيب واعداً لكنّه نحا نحو الأمل: "يمكنكما اللجوء إلى التلقيح الاصطناعي"، قال لي. حينها تراقصت في داخلي أمواجٌ أُخَر تراوحت بين الضحك والبكاء. لن ننجب، ثمة مشكلة غير قابلة للإصلاح. إذاً بات علينا أن نسير في اتجاه واحد. لا اتجاهات أخرى غيره. ثمة حل وحيد، نفق واحد و... قد لا نصل إلى نهايته، إلى فُرجة النور تلك. كأننا نقف على ضفة لا يسعنا العبور منها إلى الضفة الأخرى المغطّاة بالضباب إلا باجتياز نهر يخفي في لجّته الكثير من المفاجآت. كأننا نصطاد في بحر ما، نسير في صحراء قد يكون كل ما فيها من واحات مجرد سراب.

بعد عامين ونصف العام بدأنا خوض لعبة المتاهة، تعليمات، حقن في مواعيد محدّدة، هورمونات، نصائح، مسموح، ممنوع... وحان اليوم المنتظر. أتمّ الطبيب الإجراءات. استيقظت من خدري في غرفة صغيرة. كان عليّ الاسترخاء. رحت أفتّش المكان بنظرات هاربة، أترقّب قدوم أحد ما... زوجي، لكنه ممنوع من الدخول. أسمع صوت امرأة أخرى في غرفة أخرى. تتحدّث عبر الهاتف: "نعم أمي أنا بخير، انتهت العملية". أتذكّر أنني بلا أم... رحلتْ منذ أشهر. بجفنيّ أُلقي القبض على دموعي قبل أن تخرج إلى وجنتَيّ. الانفعال ممنوع. أسوق أفكاري إلى اتجاه آخر. هل ستنجح العملية؟ أي اسم سأطلق على الطفل؟ سيكون بنتاً أم ولداً؟ أتخيّل لحظةً قد تأتي لتعلمني فيها الموظفة في المركز الطبي عبر الهاتف أن "مبروك مدام، أنت حامل"...

بعد 14 يوماً

الكثير من الحقن، الأدوية، حشد من الأفكار المتداخلة، المتناقضة، بعض القلق، دموع تحاول الهروب عبر المآقي، كلام صامت، أمنيات، جلسات مسائية محمّلة بالأفكار، بـ"طفلنا" بـ"سنفعل"، "سنشتري له"، "سيكون"، "سيشبه" وفرح خجول في انتظار ذلك اليوم، ذلك الاتصال... وفي اليوم الهدف، عدت إلى المركز الطبي لإجراء فحص الدم. وفي المنزل لم يكن يوماً عادياً، كان زحف الساعات بطيئاً، مملاً، مجحفاً... وفي لحظة ما دقّ جرس هاتفي: "مدام أتحدث إليك من مركز... للأسف لم تنجح عمليتك، لست حاملاً".

كأنّ زخّات من الجمر الحارق بدأت تتساقط. انهار في تلك اللحظات كلّ عالمي، أصبحت سنواتي، أيامي، ساعاتي، بلا رائحة ولا طعم. تدفقت الدموع على وجهي وكشلال جرفت كل بقايا وجعي، ردْمَ 14 يوماً من الانتظار.

بعد 6 أشهر

جفّ الجرح، التأم على مضض. محاولة جديدة، هورمونات، حقن مؤلمة، انتظار، أمل و... "عذراً مدام لم تنجح العملية، لست حاملاً". والجرح ينبثق من تحت رماده أكثر توهّجاً. تعبر الأشهر لا مبالية بهذا الوجع، المشهد غير المكتمل يتكرر مجدداً، مرة، اثنتين، ثلاثاً، أربعاً، خمس مرات... و"عذراً سيدتي، لا حمل".

بعد 10 سنوات

العمر يسابق الريح... وفجأة توقف السباق. لكن لم يتوقف الزمن. أعدت وزوجي تضميد جراح الابتسامات على وجهينا. بات الأفق أكثر وضوحاً. انقشع الضباب. ويوماً نظرت إلى وجهي في المرآة، رأيت العاطفة، حبّي لزوجي، لكل أولاد العالم، يترقرقان على ملامحه... فعرفت أنني... أمّ لكن لم أُنجب.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079