طبيبات على جبهة كورونا يروين مرّ التجربة وحلوها
يقفن هناك، على الخط الفاصل بين الحياة والموت، يشاركن في اللعبة الخطِرة التي وضع شروطها وقوانينها ذلك الفيروس متقلّب المزاج: كورونا المستجد. وهناك يحرسن الرئات الصريعة التي تكافح عسر النفس، ولا يجدن وقتاً للتنفس فيطوين من أعمارهنّ صفحات تخلو من كل شيء إلا من التضحية والعطاء. هنّ الطبيبات، ملكات الرداء الأبيض اللواتي أصبحن، في زمن "كوفيد"، أمهات لغرباء بدوام كامل، اللواتي ينفقن الدموع فرحاً وحزناً من أجل نجاة أو وفاة. "لها" التقت بعضهنّ واحتفت بهنّ فروين على صفحاتها مرّ التجربة وحلوها.
الدكتورة جوسلين ساسين فاخوري: رئيسة قسم أمراض الرئة في مستشفى الشرق الأوسط، لبنان
تجتمع في صوتها أمارات التعب وقسمات التأثر حين تتحدث عن "كوفيد 19" وعن ضحاياه والناجين منه. "لم تتغير نظرتي إلى المهنة" تقول وتتابع: "لكنها أصبحت ضاغطة إلى حد كبير. فكورونا مرض معدٍ وقد ينتقل إليّ ثم إلى أفراد عائلتي. أحب مهنتي كثيراً وأشعر بالفرح لأنني أتمكّن من تقديم المساعدة للناس. واليوم المسؤوليات تتعاظم، خصوصاً أنه بات علينا معالجة الحالات الصعبة وأن نشرف على بعضها عن بُعد... ثمة حالات تلامس خط الموت، وهذا متعب جداً، حتى أن الوضع يمنعنا من النوم".
ورغم هذا الواقع الصعب، يشقّ حديثها بين الحين والآخر خيط من نور حيث تشير إلى أنها تشعر بطاقة قوية لا تلبث أن تزوّد المرضى بها لأنهم يخافون من الموت، وتضيف: "علينا أن نعمل على تقديم الدعم النفسي كما الجسدي لهم. فمرضى "كوفيد 19" يشعرون بالخوف ويعاني بعضهم من أعراض التوتر. ولا عجب في هذا، فالمرض قضى على حياة الكثيرين".
وبصوتٍ يقف عند حافة البكاء، تروي بعض التجارب التي تركت أثراً كبيراً في نفسها. وتأتي على ذكر ذلك الشاب الذي يبلغ الـ27 عاماً والذي بقي لمدة شهر في المستشفى واحتاج إلى الأوكسيجين حتى بعد عودته إلى المنزل. "بات يعاني من إعاقة في الرئتين" تقول آسفة وتردف: "لا أعلم متى سيُشفى تماماً".
وبالكثير من الشجن تحكي عن مريض آخر يرقد في المستشفى في وضع صحي حرج بعدما توفي والده والممرضة التي تعتني به بسبب الفيروس المستجد.
"رعب وحزن" هو العنوان الذي تضعه الطبيبة للمرحلة، لكنها تصر على عدم إظهار ضعفها أو انكسارها، فعليها أن تحافظ على رباطة جأشها أمام المرضى... لكنها تعترف: "نضعف، نبكي كل يوم مساءً. نشعر بالتعب والتوتر والخوف على مرضانا وعلى أنفسنا. يتصل بي ابني يومياً، يُعلمني بما عليّ فعله من أجل حماية نفسي من العدوى".
وبالحديث عن ابنها تتذكّر أنه لا يمكنها البقاء حالياً إلى جانب أفراد أسرتها ولا الاهتمام بشؤونهم كما في السابق. وتشير إلى أن حضورها في المنزل يكاد يكون صورياً حيث تتلقى الكثير من المكالمات الهاتفية، وتعلّق: "قال لي ابني يوماً إنه بات يكره الهاتف. لكنني أتابع حالة مرضاي، فالأمر ينطوي على مسؤوليات كبرى".
ورغم هذا المشهد القاتم، لا تلبث الطبيبة جوسلين ساسين فاخوري أن تشير، وإن بخجل، إلى أنها تعلّمت بعض الدروس الإيجابية من أزمة كورونا. فقد أيقنت ضرورة الفرح في الحياة والتفاؤل والإيجابية وحبّ الآخرين والاهتمام بالصحة وأفراد العائلة أولاً. وتختتم بالقول: "اشتقت إليهم".
الدكتورة بياتريس الشامي: اختصاصية أمراض الرئة والإنعاش في مستشفى نوتردام ماريتيم – جبيل - لبنان
بلَكنتها العربية "المتكسّرة" تعبّر هذه الطبيبة بلجيكية الأصل المقيمة منذ سنوات طويلة في لبنان عن ذهولها أمام التجربة التي تخوضها مع كورونا المستجد، وتقول: "لا نفهم هذا الفيروس، يومياً نتلقّى تعليمات مختلفة عن تلك التي تلقيناها في اليوم الذي سبقه. الدراسات تتناقض، لا شيء مؤكداً، لا شيء ثابتاً. أعمل في هذا المجال منذ 30 عاماً، وللمرة الأولى أواجه هذه الحالات الصعبة".
وتتابع بأسىً: "أشرفنا على حالات أكثر من 350 مريضاً، نحن نخسر بعضهم ولا نعلم لماذا. الأمر صعب جداً. نتحمل الكثير من الضغط النفسي. وما يزيد الوضع صعوبةً هو أن الكثير من الأطباء والممرضات غادروا لبنان بسبب الظروف العصيبة التي يعيشها". وبِحَيرة تتساءل: "هل سيعود عملنا إلى طبيعته بعد كورونا أم لا؟"، ثمّ تروي بعض فصول التجربة الأليمة: وفاة الكثير من المرضى على مرأى منها، رحيل أكثر من شخص من عائلة واحدة... وتعترف بصدق بالغ: "أفرح لمن يتعافى، لكنني أبكي بشدة في منزلي بسبب الوفيات. ذات مرة توفي شخصان في يوم واحد فبكيت بسبب ذلك لساعات. نحن نعمل لساعات طويلة قد تصل إلى 12 يومياً".
وشدّدت الشامي على أهمية الدعم النفسي لمريض "كوفيد 19"، وعلّقت: "يشعر المرضى بالتعب النفسي، وهذا ما ينعكس علينا أيضاً. فنحن في هذه الحالة بمثابة عائلة لهم". وحينها تتذكّر مريضة في الـ44 من العمر فتقول: "لديها طفلان في الـ12 والـ14 عاماً... توفيت بعد بقائها في العناية المركّزة لمدة شهر ونصف الشهر. قبل هذا توفيت والدتها بسبب التقاطها عدوى "كوفيد 19" في مستشفى آخر من دون أن تعلم بذلك. التقيت زوجها وشقيقتها وأولادها... بكينا جميعاً. نبذل كل ما لدينا من جهود ثم يموت المريض. قد تفقد العائلة نفسها أفراداً عدة".
وتتحدث بعد هذا عن عائلتها فتشير إلى أن زوجها طبيب، وأن أبناءها يقيمون خارج لبنان باستثناء أحدهم ويبلغ سنّ الـ26. وتعبّر عن حزنها لأنها لا تتمكن من الاهتمام به حالياً. وتردف: "للمرة الأولى لا أذهب بنفسي إلى السوبرماركت لشراء حاجياتي. وأنا لا أهتم بنفسي، لا أمارس الرياضة كما جرت عليه عادتي دائماً... الهاتف لا يتوقف عن الرنين".
ووسط هذه الغيوم تلوح بارقة أمل: اللقاح. والطبيبة بياتريس الشامي تطلب من الجميع السعي للحصول عليه مع الالتزام بالإجراءات التي يمكن أن تحدّ من انتشار العدوى، وتختتم بالقول: "المعركة تشملنا جميعاً. ما يقوم به الممرضون والأطباء لا يعتبر كافياً، فعلى الناس المساهمة في محاربة الفيروس أيضاً".
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024