المهندسة الميكانيكية رنا الحايك: تعلّمت المهنة من الرجل
اعتاد مجتمعنا على وصف المرأة بـ "المسترجلة" إذا اختارت اختصاصاً يتطلب جهداً جسدياً، لا سيما الاختصاصات التي عُرفت أساساً بكونها حكراً على الرجال. لكن مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، فوجئ الجميع بتوجّه الكثير من الفتيات الى اختصاصات ذكورية بامتياز، كهندسة الميكانيك... واعتقدوا بأن رائحة الزيوت والشحوم وقضم الأظفار سيدفعانهنّ إلى الابتعاد تدريجاً عن هذا الاختصاص، لكن خاب أملهم حين وجدوا طيف السيدات يلمع وبقوة في هذا المجال. وخير مثال على ذلك، المهندسة الميكانيكية رنا حايك التي أجرينا معها حواراً تحدّثت فيه عن هذه المهنة وكشفت عن التحديات التي واجهتها فيها.
- دخولك عالم ميكانيك السيارات سببه التشبّه بأحد أفراد العائلة، أم الشغف بالمهنة، أم حبّ التحدّي؟
لم أدخل مجال الهندسة الميكانيكية تشبّهاً بأحد من أفراد عائلتي، فوالدي متخصص بأعمال الديكور، ووالدتي ربّة منزل، بل اخترت العمل في هذا المجال لشغفي به أولاً، ولأنني أحبّ التحدي ثانياً، ففي صغري كان يستهويني اللعب بألعاب شقيقي من مفكّات وبراغٍ وسيارات وجنود بلاستيكية، ولا أنجذب أبداً للدُمى المخصّصة للفتيات. وحين بلغت سنّ السادسة عشرة، صارحت والدي بمدى تعلّقي بمهنة الميكانيك، فحاول بديبلوماسيته المعهودة إقناعي بالتخلّي عن الفكرة، وكان بعد عودتي من المدرسة يصطحبني معه إلى كاراج صديق له، معتقداً أن رائحة الشحم وزيت السيارات والثياب المتّسخة والأظفار المتكسّرة... ستردعني عن دخول مجال الميكانيك، لكنني بالعكس ازددتُ تعلّقاً بالفكرة وأصررت على دراسة الهندسة الميكانيكية.
- هل رفضُ والدك سببه أن العمل في مجال الميكانيك حكر على الرجال؟
أعتقد ذلك، فالجميع وقتها استغرب كيف أحمل عدّة الميكانيك من مفكّات وبراغٍ، كما أن الكاراج كان يقع في شارع في منطقة الدورة يكتظ بالشبان، وكانوا يتهامسون عن سبب وجودي بينهم. وكم حزنتُ حين سمعتُ صاحب هذا الكاراج يطلب من والدي ألاّ يصطحبني معه مجدداً إلى الكاراج، وتساءلت: أي خطأ ارتكبت؟ وأي ذنب اقترفت إذا كنت أعيش في مجتمع لا يزال ينظر نظرة دونية الى المرأة، ويميّز في توزيع المهن ما بين الشبان والشابات، متمسّكاً بفكرة أن الفتاة ستتزوج عاجلاً أو آجلاً، وبالتالي ستصبح مسؤولة عن عائلتها، من دون الالتفات الى طموحاتها... كل ذلك رفع مستوى التحدّي بيني وبين نفسي، وجعلني اتّخذ قراراً بضرورة الاستمرار، فما كان منّي إلاّ أن انتقلت للتدرّب في كاراج آخر بمعاونة إحدى قريباتي، وأسعدني أن صاحب هذا الكاراج شجّعني ودعمني بقوّة، فكنت أذهب إليه بعد انتهاء الدوام المدرسي، وفي عطلة الصيف أقصده يومياً للتمرّس في المهنة. وبعد نيلي شهادة البكالوريا، دخلت الجامعة وتخصّصت في هندسة الميكانيك، وكنت حينذاك أعمل في كاراج الـ"بورش"، لكن أحدهم نصحني بالانتقال الى الـ"الكترو أنجنيير" لكونه اختصاص العصر، ففعلت، ولم أتوقف يوماً عن العمل في هذا الكاراج.
- حدّثتِنا عن موقف والدك من دخولك مجال الميكانيك، لكن ماذا عن والدتك؟
كما قلت، والدي حاول ثنيي بطريقة ديبلوماسية ولكنه فشل، أما والدتي فخاب أملها لأنها كانت ترغب بأن أتخصّص بدراسة الصيدلة، وحاولت جاهدةً إقناعي بمساوئ العمل في مجال الميكانيك، لكنني لم أرضخ لرغبتها، وكانت تبكي كلما رأتني أعود إلى البيت وثيابي ملطّخة بالشحوم والزيوت، وتسألني: هل أنتِ صبي لتمارسي هذه المهنة؟! لكنها اليوم فخورة بعملي في مجال الميكانيك.
- هل توافقين على فكرة تخصيص ألعاب للصبيان وأخرى للبنات منذ الصغر؟ أم ترين أن في ذلك ظلماً للأطفال؟ وهل ستعتمدين هذا الأسلوب في تربية أولادك؟
لا، فلطالما تم تخصيص اللون الزهري والـ"باربي" للفتاة، واللون الأزرق والسيارات والطائرات للصبي... حتى في الرياضة هناك تمييز، فالجودو والباسكيت والفوتبول للصبيان، ورقصة الباليه للفتيات، لكن ما ذنب هذا الجيل إذا نشأ ذكوره وإناثه على هذه الأسس؟! أما أنا فسأشجّع أولادي على اختيار ما يفضلونه من ألعاب تحاكي رغباتهم.
- وهل تقبّل أصدقاؤك فكرة دخولك مجال الميكانيك؟
في البداية سخر الجميع منّي، ولا أنسى يوم سألت المعلمة في المدرسة كل طالب منّا عن الاختصاص الذي ينوي دراسته، وأجبتها أنا بأنني سأتخصّص بالهندسة الميكانيكية، وأطمح في افتتاح كاراج لتصليح السيارات، وما إن أنهيت جملتي حتى تعالت ضحكات الجميع الساخرة... حزنت كثيراً حينذاك، إلا أن أصدقائي اليوم فخورون بي لأنني حققت الهدف الذي كنت أصبو إليه، ويقدّمون لي الدعم بشكل دائم، وخصوصاً منهم الشبان، الذين يحبّون السيارات والحديث عنها، ويفرحون بمشاركتي كفتاة شغفهم بها، وكثيراً ما يأخذون برأيي في هذا الشأن.
- تُصلحين الأعطال في السيارات، ما الأصعب بالنسبة إليك: كسب ثقة الزبائن الرجال أم النساء؟
وجدت صعوبة في التعامل مع الفئتين، لكن في العادة الفئة الذكورية هي التي تقصد الكاراج، حتى وإن كانت السيارة للزوجة أو الأخت أو الابنة... وكنت أتعامل مع نوعين من الزبائن: زبون إيجابي يقدّر عملي ويشجّعني، وآخر يتعاطى معي بسلبية. لكن الدهشة كانت قاسماً مشتركاً بين الجميع، خاصة أن كثراً كانوا يظنّون أنني لاجئة أو لا أملك المال أو أنني مُجبرة على ممارسة هذا العمل، وبعضهم كانوا يخشون على سياراتهم مني، إلا أن صاحب الكاراج كان يساندني ويؤكد لهم أنني أتخصّص في الهندسة، وأعمل في الكاراج بملء إرادتي وإرضاءً لطموحي.
- عملك في الميكانيك، هل أحدث نقطة تحول في حياتك؟
نعم، فقد بتُّ معروفة بين ليلة وضحاها. فمنذ سنتين، وبمناسبة "يوم المرأة العالمي" استفقت على خبر أن صورتي تزيّن الصفحة الأولى من كبريات الصحف اللبنانية كـ"النهار" و"الجمهورية" وغيرهما، وانتشرت صوري عبر "إنستغرام" و"فايسبوك" بينما كنت أعمل في الكاراج، وكرت السُّبحة، وأصبحت نجمة في عالم الميكانيك، وتناقلت أخباري وسائل إعلام محلية وعالمية، منها "وكالة الصحافة الفرنسية" و"سكاي نيوز" و"سبوتنيك"... وهذا مدعاة فخر لي.
- نجاحك، ألم يفتح لك أبواباً تدخلين منها إلى مجالات أخرى كتقديم برامج مخصّصة للسيارات؟
بلى... وقد تحقق لي ذلك هذا الأمر من دون أن أسعى إليه. فقد طُرحت عليّ فكرة تقديم برامج مخصّصة للسيارات، إلا أن الفكرة مجمّدة حالياً بسبب الظروف التي استجدّت في البلد، وأقدّم اليوم برنامجاً على "سترايف"، وهي أكبر منصة تعرض كل جديد في عالم السيارات في الشرق الأوسط، وكل سيارة أجرّبها، أكشف عن رأيي الشخصي فيها.
- كيف تصفين نظرة المجتمع الى المرأة الشرقية؟
لا تزال مجتمعاتنا العربية وللأسف تنظر إلى المرأة الشرقية نظرة دونية، لا سيما في مجالات العمل، علماً أن الفتاة الشرقية تثبت يوماً بعد يوم مدى جدارتها وتفوّقها حتى في الأعمال التي لطالما كانت حكراً على الرجال.
- كيف ترى رنا الرجل زميل المهنة؟
لا يمكنني أن أنكر أنني تعلّمت المهنة من الرجل، وأنا هنا لستُ في صدد التحدّي أو المنافسة مع الذكور لإثبات ذاتي، بل أعمل في مجال جنباً إلى جنب الرجل، ولا أسعى أبداً لتهميشه أو إلغائه، وجلّ ما أطلبه هو يحترم الرجل كياني ويتفهم قناعتي باختياري لمهنتي.
- وهل يؤثر عملك في حياتك الاجتماعية؟ وهل تفكرين بالزواج؟
على الرغم من خشونة مهنتي، أحرص على الظهور بكامل أنوثتي في المجتمع وأعيش حياتي بشكل طبيعي، لكن يُفاجأ كل من يحاول التودّد إليّ سائلاً عن المهنة التي أمارسها... وبالنسبة إلى الزواج، فهو حلم كل فتاة، لكنني سأحرص على اختيار شريك يقدّر كياني ويتفهّم طبيعة عملي ويكون لي السند.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الأول 2024