تحميل المجلة الاكترونية عدد 1080

بحث

المرجع العلاّمة الراحل السيّد محمد حسين فضل الله

تجاوز المرجع العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، الذي انصرف عن عالمنا أخيراً، أدواره كلّها. تجاوز دور رجل الدين إلى دور المثقّف، وتجاوز دور المثقّف إلى دور المفكّر الملتزم بالدفاع عن اقتناعاته واجتهاداته المتحرّرة من أَسْر الماضي. تمسّك المرجع المتنوّر الأديب بالشعر ولم يتوقف عن كتابته. وقد صدر قبل أيام من وفاته ديوانه الأخير «في دروب السبعين».إهتمّ السيّد بقضايا المرأة وشعر بأنه «من واجبه أن يوضّح القيمة الإنسانية الإسلامية للمرأة وأن يدعو إلى إعادة إنسانيتها إليها». فحرّرت فتاويه المرأة من قيود التاريخ والمجتمع الذكوري لتعيد إليها ثقتها بنفسها. وفي السياسة والفقه والأدب، كانت أجوبة السيّد تخترق عقولنا وقلوبنا وتخفّف ضياعنا بين هويات متقاتلة وانتماءات متناقضة. منحنا فكره سلام المصالحة بين انتماءاتنا التاريخية والدينية وبين تحوّلات زمننا. وأدهشتنا جرأته في طرح أجوبة لأسئلة تمسّ حياتنا المعاصرة.
نعود إلى كلمات السيّد الراحل التي يستمرّ وجوده عبرها. لقد ترك لنا السيّد فضل الله مؤلفات عديدة منها «دنيا المرأة» و« تأملات إسلامية حول المرأة» و«الحركة الإسلامية: هموم وقضايا» و«الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل» و«من وحي القرآن» (تفسير للقرآن الكريم من 25 جزءاً). بقيت لنا أيضاً حوارات عديدة أُجريت معه، هو الذي لم يمنع أجوبته عن أحد. وهنا نعيد نشر حوارنا الأول (العدد 71 في 30-1-2002) مع المرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله.



- يقولون إن العالم تغير بعد 11 أيلول/سبتمبر، هل فعلاً تغير العالم وكيف؟
إذا كانت مسألة ميزان التغيير وحركة بعض الدول التي تملك القوة المسيطرة في العالم بدأت تنفذ بعض خططها خلال الظروف الجديدة على أكثر من موقع في العالم لتلبية مصالحها، فالأمر صحيح. لأن أميركا التي أصيبت بصدمة تحدّت عنفوانها التجاري والعسكري والسياسي للمرة الأولى في تاريخها بهذا المستوى في الوقت الذي كانت تعيش فيه الاسترخاء الأمني بشكل فوق العادة شعرت بأن عليها أن تستعيد هذا العنفوان بشنّ حرب نفسية ضد كل الذين يعارضون سياستها وفي حساب كل الذين يتحالفون معها لإثبات أنها العنصر أو القوة الأقوى في العالم باعتبار ما سيأتي من المعارضين للوقوف ضد سياستها ومن الحلفاء، في ظل الصراع الخفي في أكثر من جانب اقتصادي أو أمني هنا وهناك.
وفي ضوء هذا بدأت أميركا تزيل الغبار عن كثير من الخطط المعدّة للتحرك في هذه المنطقة أو في تلك لإيجاد قواعد استراتيجية في المناطق التي لا تملك فيها أميركا وجوداً مسلّحاً على مستوى القواعد أو لإيجاد مواقع اقتصادية أو أمنية أو إسقاط المعارضين لها في كل تنظيماتهم وأوضاعهم. إن أميركا استطاعت من خلال هذا الذهول الذي أصاب العالم الذي كان يتصوّر أن أميركا هي الدولة التي لا تقهر أن تستخدم الأمر في تجييش كل المواقع السياسية والعسكرية والاقتصادية وتخويف من يراد تخويفه في ما يمكن أن يحدث له كما في الاتحاد الأوروبي أو استغلال ما يحدث لبعض المواقع كروسيا مثلاً أو الصين التي ربما تعيش بعض المشاكل من خلال بعض الحركات التي تعتبرها إنفصالية أو ما أشبه بذلك، وترتيب أوضاع بعض الدول كما في منطقة الشرق الأوسط وما إلى ذلك، والاستفادة من هذا الجو العاصف لتنفيذ كثير من مخططاتها في مسألة الشرق الأوسط لتتحرك لدعم إسرائيل بشكل قوي جداً مستغلّة وضع المقاومة الفلسطينية في خانة الإرهاب لتدخل في التحالف الدولي ضد الإرهاب، وبذلك استطاعت أن تغيّر اتجاه الاتحاد الأوروبي في المسألة الفلسطينية بالإضافة إلى أنها تدجن الموقف الروسي والمواقف الأخرى وتهزم الموقف العربي بحيث ازداد عجزاً على عجزه.

إن أميركا لا تزال تتحرك على أساس أنها الدولة التي تحكم العالم، ولذلك فإننا نراها تجمّد أرصدة الكثير من الجمعيات الخيرية لمجرد احتمال أنها قد تساعد الفلسطينيين حتى في الموارد الخيرية للأيتام ولأيتام الشهداء وما إلى ذلك. وقد قرأنا قبل أيام أنها انطلقت إلى بعض الدول العربية لتحقق من خلال خبراء أميركيين في حسابات بعض الجمعيات الخيرية وموارد إنفاقها وما إلى ذلك بحيث أنها تتدخل بشكل مباشر في هذا المجال. إن علينا أن نراقب هذه الخطة الأميركية للتغيير باسم الحرب على الإرهاب وإنقاذ العالم من المنظمات الإرهابية ولكننا نعرف أن أميركا ليست معنية بالإرهاب لأنها ليست مستعدة لأن تناقش مفهوم الإرهاب ليرتكز على قاعدة يتداول فيها الرأي كل الخبراء في العالم للسلبيات والإيجابيات وللقضايا القانونية والشرعية والقيم الحضارية.
إنها تعمل على أساس أن تقوّي إرهابها الدولي للعالم، إنها تريد أن تسقط كل العالم وحتى حلفاءها تحت تأثير قوتها الجديدة والقديمة بقطع النظر عن كل قيم الحرية والعدالة والحضارة وما إلى ذلك حتى رأينا أن أميركا تحوّلت في داخلها في كثير من قوانينها إلى ما يشبه دول العالم الثالث في الحكم البوليسي الذي لا يخضع فيه المتهم لأي حق من حقوق الدفاع عن نفسه وربما بدأت هذه المسألة تصل إلى الدولة، التي هي أكثر عراقة في الديموقراطية، وهي بريطانيا فأخذت ببعض القوانين التي يمكن أن تسقط كل قوانين العدالة بالنسبة إلى المتهمين. صحيح أن هناك حركة من أجل تغيير العالم، لكن السؤال الكبير: إن أميركا قد تستطيع أن تغير بعض السطح لكنها هل تستطيع أن تغير الأعماق؟ هذه هي المسألة، إن قضية الأعماق هي قضية الشعوب التي سوف تخترن كل هذه الآلام والسلبيات من أجل جولة جديدة في عالم جديد ربما يدخل في تاريخ جديد.

- ماذا تسمون الفعل الذي وقع في الولايات المتحدة وغيرّ ما غيّر في العالم وهؤلاء الذين قاموا بالعمل؟
لا أريد أن أتعامل مع الكلمات الفضفاضة. لقد استنكرت بكل قوة من موقعي الديني ما حدث في مركز التجارة العالمي وفي الطائرات التي خطفت بقطع النظر عن الجهات التي قامت بها، لكنني أريد أن أتساءل بقطع النظر عن قيمة الخطأ والصواب، لماذا يقوم بن لادن الملياردير الكبير بأمثال هذه الأعمال لو كان هو وراءها؟ لماذا يقوم بتنظم القاعدة؟ هل لأن لديه عقدة ذاتية ضد أميركا؟ أو لأن المسألة بالنسبة إليه كما صرّح أن هناك قهراً عميقاً في وجدان الأمة الإسلامية في كل مواقعها وأن السياسة الأميركية تحاول أن تسيطر على العالم الإسلامي وتصادر كل مصالحه وتستغلّ ثرواته وتمنعه من أن يستخدم كل موارده الاقتصادية في التنمية وفي القيام بتطوير كل أوضاعه علماً أنه يملك الكثير من إمكانات التطور على المستوي العلمي والثقافي والبشري وما إلى ذلك. وهكذا في الجرح النازف في المسألة الفلسطينية الذي أصاب كل مسلم ومسلمة في العالم. إنني أتصور وهذا ما يتصوره الجميع أن أميركا هي وحدها المسؤولة عن ذلك كله ويبقى للإتحاد الأوروبي بعض الهوامش في المسألة الفلسطينية على الأقل. لذلك فإني أعتقد أن ما قام به بن لادن وغيره إنما هو ردة فعل وليس فعلاً وربما يشعر الإنسان الذي يعيش هذا القهر السياسي والأمني الاقتصادي بأن عليه أن يفعل شيئاً، أي شيء، ولا سيما إذا اصطدم بالجدار ربما يفقد القدرة علي الحسابات الدقيقة وربما يفقد إمكانية دراسة النتائج السلبية التي يحاول أن يجعلها إيجابية، ولعل هذا هو ما حدث. فقد كان بن لادن يفكر بأنه يريد إسقاط هيبة أميركا وعنفوانها والإيحاء لها أن من الممكن للشعوب أن تقتحمها من الداخل رغم القوة الهائلة التي تملكها في العالم، لكنه استطاع أن يقدم لأميركا خدمة لم تحلم بها في تاريخها لأنه فتح لها أبواب العالم لتنفيذ كل ما كانت تخطط له لإسقاط ما كانت تريد إسقاطه ولتخويف من تريد تخويفه ولابتزاز من تريد ابتزازه.
إن العمل غير مبرر شرعاً لأن قتل الأبرياء في غير حالة حرب غير مبرر وغير جائز. ونعتقد أن علينا أن لا نقاتل  الشعب الأميركي الذي نريد أن نحصل على صداقته كما أرادنا الله سبحانه وتعالى أن نحوّل أعداءنا إلى أصدقاء في قوله تعالى: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم ». لذلك فإني لا أريد أن أستهلك الكلمات. ربما كان بن لادن يشعر بأنه كان يخدم الإسلام ويخدم الله في ذلك، لكنه أخطأ في الحسابات لأنه ورّط الإسلام والمسلمين كلهم في العالم بما لم يعيشوا تاريخه في أي موقع من مواقع التاريخ.

- من يملك الحق في أن يدعو إلى الجهاد؟
من الطبيعي أن الجهاد ليس مسألة عشوائية فوضوية يمكن أن يطلقها أي إنسان لا سيما إذا كانت مسألة الجهاد  تتصل بالعالم الإسلامي كله. إن هناك مسائل في الجهاد، كمسألة فلسطين أو مسألة الاحتلال الإسرائيلي للبنان،  تملك جهة فيهما شرعية الدعوى إلى الجهاد بعد تهيئة كل الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية في هذا المجال. لكن عندما تكون المسألة مسألة العالم الإسلامي، فلا بد للمسألة أن تكون مرتبطة بالجهات القائدة للعالم الإسلامي لتدرس هذه المسألة من كل الجوانب التي يمكن أن تحقق بعض الإيجابيات أو السلبيات هنا وهناك.

 

- أليس للأنظمة العربية الدور الأكبر في دفع الشباب إلى التطرّف؟
قد قلت سابقاً عندما كانت تثار مسألة الإرهاب في هذا البلد المسلم أو ذاك، إن الأنظمة في هذا البلد أو ذاك تستطيع أن تحلّ مشكلة ما تسميه الإرهاب بإعطاء الحرية السياسية للمنظمات والأحزاب الإسلامية المعتدلة بحيث أنها تشعر بوجود حرية سياسية في نطاق القانون، فذلك هو الذي يجعل كل هذه التعقيدات وكل حالات الاحتقان النفسي تتنفس في مناخ الحرية الذي تأخذه. كما نلاحظ في العالم الغربي حيث أننا نجد أن هناك الكثيرين من الفئات الشعبية التي تعارض سياسة هذا البلد الغربي أو ذاك، كما لاحظنا في الجماهير الكبيرة التي وقفت ضد مشروع العولمة وسُمح لها بالتظاهر وشعرت بأنها تستطيع أن تقول كلمتها بحرية. ولم تحدث أعمال العنف إلا عندما قامت هذه الجماهير بأعمال عنف، ولا تزال تعارض. لكننا نجد الكثير من الفئات المعارضة لسياسة هذه الدولة أو تلك لأنها تشعر أنها تستطيع أن تنتقد رئيس الجمهورية بكل صراحة أو أنها تستطيع أن تنتقد قوانين الكونغرس الأميركي أو مجلس العموم البريطاني أو أي بلد آخر من دون أن يحاسبها أحد على ذلك. إن مناخ الحرية في كل بلد عندما يخضع لضوابط قانونية لا تستغل سلطتها لخنق الحرية من جانب آخر يمكن أن ينفس كل التعقيدات وكل حالات الاحتقان التي تحدث. إن الشرق انفعال، ولذلك فإننا كلما ضغطنا على الناس انفجر انفعالهم وتحوّلت المسألة إلى حالات سلبية قد تتمثل في أعمال إرهابية كقتل السياح والاغتيالات التي تحدث هنا وهناك والخطف الذي يحدث هنا وهناك. لذلك أعتقد أن فقدان الشرق حريته في أكثر أنظمته سواء كان شرقاً عربياً أو إسلامياً أو حتى في العالم الثالث لا في الشرق فحسب هو الذي يفجر بشكل عام الأعمال الإرهابية أو أعمال العنف، وهو التعبير الأدق، ولا ننكر وجود خلفيات أخرى ووجود سياسات لها مصلحة في إثارة جو هنا وجو هناك، لكن حتي السياسات التي تحاول إثارة العنف تتغذى من حالات الاختناق التي يعيشها الشعب في  قضاياه الحيوية.

- هل يحمي الإسلام هذه الأنظمة؟
إن الإسلام لا يمانع أبداً أن يقف الإنسان كي ينتقد الحاكم بل ليحاسب الحاكم في هذا المجال. إن الإسلام لا يعاقب إنساناً يعارض الحاكم في سياسته بطريقة موضوعية وعقلانية. نحن نقرأ في السيرة النبوية الشريفة أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما اعترضه بعض الناس وهو يقسم الغنائم قالوا له «إعدل يا محمد» فلم يزد النبي على كلمة «ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل» ولم يأمر بحبسه أو التنكيل به أو ما إلى ذلك. وكما رأينا أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما في طبقات ابن سعد أنه عندما كان في أيامه الأخيرة وقف أمام المسلمين وقال لهم: «أيها الناس إنكم لا تعلقون عليّ بشيء إني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن وما حرّمت إلا ما حرم القرآن». إنه يقدم  حسابه إلى الناس وهو ليس مسؤولاً أمامهم لأن الله هو الذي اصطفاه ولم ينتخبه الناس ليكون نبياً ومع ذلك قدم حسابه للناس كأنه يقول لهم ادرسوا تاريخي إنني لم أحرّم إلا ما حرّم الله ولم أحلّل إلا ما أحلّ الله. وهكذا نجد في حديث الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: «لا تكلّموني بما تكلّمون به الجبابرة ولا تتحفّظوا مني بما يُتحفّظ به عند أهل البادرة (أهل السيف) ولا تظنوا بي استثقالاً لحق قيل لي أو عدل يعرض عليّ فإن من استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفوا عن مشورة بحق أو مقالة بعدل فإني لست بفوق أن أخطئ». يطلب من الناس أن يحاسبوه وهو في نظر المؤمنين بولايته المعصوم في أفعاله وأقواله. لذلك نحن نقرأ في التاريخ الإسلامي وفي الشخصيات الإسلامية التي تمثل القيمة الإسلامية الأساس لأنها تمثل الشرعية الإسلامية الأصيلة أن الإنسان إذا وقف أمام الحاكم وعارضه ونقض سياسته وطلب منه أن يقدّم حسابه للأمة، فإنه لايؤاخذ على ذلك، فإن الحكام أنفسهم يغرون الناس بأن يحاسبوهم.

- هل ترون إمكان الوصول إلى نظرة جديدة إلى التراث القرآني؟
نقول إن هناك نظرتين في هذا السؤال، تارة نريد أن نعيش عقدة الجِدّة، كأن لا بد من جديد تماماً كالناس الذين يجددون ديكور منزلهم أو الموضة، وتارة نقول إن التراث الذي جاءنا يمثل مسألة فكرية في النصوص، نصوص الكتاب والسنة ونصوص العلماء والمثقفين الذين فكروا ودرسوا وأنتجوا واجتهدوا. إننا نعتقد أن النص مقدس،  لكن مضمونه خاضع لاجتهادات المجتهدين. لذلك فإن الذين قرأوا القرآن وفسّروه لا نجد أن تفسيرهم يمثّل الحقيقة النهائية بل هو اجتهاد يخضع للخطأ والصواب، كما أن قراءة السنة توثيقاً ومضموناً تمثل حركة اجتهادية. وهكذا بالنسبة إلى كل الدراسات التي قام بها الأولون في ما ركزوه من علوم وفي ما أفتوا به من فتاوى وفي ما وصلوا إليه من عقائد وما إلى ذلك. إن التراث صنع الذين اجتهدوا فيه ولذلك فنقول هم رجال ونحن رجال وكم ترك الأول للآخر ولذلك فنحن ندعو إلى قراءة النصوص وقراءة التراث كما لو لم يقرأه أحد. نقرأه من خلال ما لدينا من ثقافة تجمع ثقافة الماضي إلي ثقافة الحاضر. ونقد الماضي لا يعني أن نهدمه بل أن ندرسه، فنبقي ما يبقى منه للحياة لأنه يمثل الصواب ونطرد ما يموت مع الزمن لأنه يمثل الخطأ، مرحلة خاصة في هذا المجال. إن المجتهدين الذين اجتهدوا في قراءة التراث ليسوا معصومين لذلك فإن كل ما أنتجوه قابل للخطأ والصواب ولذلك قابل للنقض وللقبول.

- ما سبب اهتمام سماحتكم الواسع بقضايا المرأة؟
عندما قرأت الإسلام، ولا سيما القرآن، رأيت أن القرآن لم يتحدث عن المرأة بأية سلبية مما تعيشه الذهنية الإسلامية في النظرة السلبية إلى المرأة بل رأيت القرآن يساوي بين الرجل والمرأة في القيمة السلبية والإيجابية كما رأيناه يقدم المرأة في سلوكها السلبي والإيجابي مثلاً للرجال والنساء. ونراه يتحدث عن المسؤولية في حركة المرأة والرجل. «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر». والمعروف هو كل عمل إيجابي يرفع مستوى الإنسان مما يرضي الله، والمنكر هو كل عمل سلبي يسقط مستوى الإنسان مما يسخط الله. فإن هذه الآية تدلّ على أن المؤمنين والمؤمنات يتعاونون في كل قضايا العالم وهكذا نلاحظ أن حتى في الأمور التي ميّز فيها الرجل عن المرأة لم يكن تمييز القيمة بل تمييز الدور من خلال تنويع الدور. لقد قرأت ذلك كله ورأيت أن تاريخ الواقع الإسلامي أبعد المرأة عن حركة الحياة وأهملها وحصرها في دائرة حاجة الرجل بحيث أصبحت على هامش الرجل فيما هي إنسان يعيش إنسانيته إلى جانب الرجل ليتكاملا مع بعضهما البعض «خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها».
لذلك شعرت أنه من واجبي أن أقوم بتوضيح القيمة الإنسانية الإسلامية للمرأة وأن أدعو إلي إعادة إنسانية المرأة إلى حركة الواقع وأدعو المرأة إلى أن تثقف في نفسها من جديد لأن كل التراكمات التاريخية أفقدت المرأة ثقتها بنفسها فعندما كانوا يقولون إن المرأة ضعيفة العقل أو أنها بربع عقل كانت تشعر أنها كذلك وتسكن إلى ذلك. إنني أعتقد أن سلامة أية أمة في حركتها التاريخية هي في أن ينطلق الإنسان واحداً في كل تنوعاته. وأنا في هذا المجال لا أريد أن أنتقص من شأن البيت وشأن الأمومة لكن شأن الأمومة كشأن الأبوة ينطلق من أجل رعاية الأجيال المقبلة ولكني أعتقد أن الأمومة لا تحاصر المرأة في داخل نطاقها كما أن الأبوة لا تحاصر الرجل في ذلك، فللمرأة آفاق واسعة تغتني أمومتها بها كما يغتني المجتمع لها وهكذا بالنسبة إلي أبوة الرجل. وقد رأينا من خلال التجربة التاريخية والمعاصرة أن المرأة استطاعت أن تخوض مسائل الفكر ومسائل السياسة ومسائل الاجتماع والاقتصاد وأنها إذا لم تتفوق على الرجل في بعض المواقع فإنها لا تقل عنه في نجاحاتها الواقعية.

- لماذا لم يطبقّ الشرع بطريقة عادلة في ما يتعلق بالمرأة؟
إن المجتمع التاريخي هو المجتمع الذكوري ومن الطبيعي عندما يأخذ المجتمع عنواناً معيناً فإنه لا يريد أن يتنازل عن سلطته. ونحن نعرف أن التراكمات التاريخية المغرقة في القدم والتي كانت قبل الإسلام لا يمكن أن تزول بموعظة واحدة أو دراسة واحدة بل تحتاج إلى مدى تاريخي تعيش فيه المرأة لتؤكد إنسانيتها وأصالتها وهويتها الإنسانية لتثبت وجودها وتفرضه. لأن الحقوق عادة لا تعطى ولكنها تؤخذ.

 

- هل يحق لزوج المرأة أو أخيها أي ولي أمرها أن يمنعها عن العمل؟
في الإسلام من وجهة نظرنا البالغة الرشيد كالبالغ الرشيد هي إنسان مستقلّ من الناحية الحقوقية الشرعية ليس لأحد ولاية عليها حتى في زواجها. وإذا كانت هناك نظريات فقهية تفرض ولياً على المرأة أو البكر في زواجها فإننا لا نرى ذلك وإن كنا نفضل أن تأخذ رأي الناس الذين يملكون الرأي من أقاربها ولاسيما الأب والأم والجد حتي لا تخدع ولا تغش لأنهم أكثر تجربة ولكننا لا نعتقد أن زواجها مربوط بذلك. لذلك فهي مستقلّة من ناحية قانونية مئة في المئة. غاية الأمر أن الزواج عقد وعندما تدخل المرأة في الحياة الزوجية بمقتضى العقد على العقد الذي يمثل التزاماً بينها وبين زوجها فإن عليها أن تشترط لنفسها ما شاءت.  لأن الزواج يقيّد حرية المرأة وحرية الرجل فلذلك فإن عليها أن تحتاط لنفسها بأن تأخذ لنفسها شرطاً في العمل أو في أمور أخرى.

- ما الذي تستطيع أن تشترطه في عقد الزواج؟
تستطيع أن تشترط أي شيء، المؤمنون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً.


المرأة والحجاب

- هناك العديد ممن يربطون بين الحجاب وتخلّف المجتمع، ما رأيكم؟
لو قلنا ذلك لقلنا إن العالم كله متخلّف لأن العالم محجب. ولأن المرأة في العالم محجبة على الأقل في نصف جسدها، وإذا كنا نتكلم عن الحجاب كمبدأ فأين الفرق بين حجاب الرأس وبين حجاب الصدر وبين حجاب الأعضاء الحساسة للإنسان، بل إن الرجال يمارسون الحجاب في أعضائهم الحساسة. لذلك هل نؤمن بالحجاب أو بالعري؟ لا بد أن تطرح المسألة من الناحية القيمية، هل العري هو القيمة أو الحجاب هو القيمة؟ هل العري هو الجمال عندما نتحدث عن القيمة الجمالية أو الثياب هي الجمال؟ عندما نسأل لماذا حجاب الأعضاء الحساسة الجنسية؟ يقال إنها من أجل الإثارة، لكننا إذا درسنا مسألة الإثارة فإنها مسألة نسبية في هذا المجال. ربما يجد بعض الناس أن شعر المرأة هو الذي يعطيها جمالاً قد لا تتمثل به في ما لو كانت مثلاً مغطية شعرها، ثم هناك نقطة قد تعالج في هذه المقام: هل مسألة الجنس في كل درجاتها من  حريات الإنسان المطلقة أم هي من المسائل التي تملك ضوابط، من الحريات المضبوطة؟ فإذا قلنا، كما تقول بعض الفلسفات، إن الإنسان حرّ في جسده وإن المسألة الجنسية هي مسألة شخصية فعلينا أن نلغي كل الضوابط بما في ذلك الزواج، عند ذلك لا تعود الخيانة الزوجية لها معنى. صحيح أنه ربما رأينا في الغرب الآن أن يحاكم الزوج على اغتصاب زوجته في حاجته الجنسية وتعطى الحرية للزوجة في أن تمتنع عن زوجها لكنها لا تحاسب على زناها كما لا يحاسب الزوج على زناه. وهذا ينتهي إلى الفوضى التي نراها الآن في الغرب، وعلى هذا الأساس ينبغي أن لا نتحدث لا عن العفة ولا عن حجاب. أما إذا تحدثنا عن أن الجنس حالة مضبوطة في الزواج، فلا بد أن نضع له بعض المناخات التي تحافظ على هذه الضوابط لأننا عندما تطلق للمرأة والتي هي رمز الجنس في الوجدان الإنساني بقطع النظر عن السبب في ذلك هل هو سبب ذاتي أو تاريخي، فإن ذلك سوف يجعل المجتمع لا شعورياً يعيش حالة طوارئ جنسية، وهذا ما نلاحظه. لا أتحدث عن القرآن الكتاب والسنة بل حتى في المجتمعات الحرة نجد حوادث الاغتصاب تسجل أرقاماً قياسية ليست موجودة في المناطق المحافظة حتي أن مسألة معاكسة رؤساء الدوائر للسكرتيرات والموظفات حتى تصل المسألة إلى وزراء ورؤساء كالرئيس كلينتون.

إننا نتساءل لماذا يحدث ذلك مع أنهم يعيشون كل الحرية؟ لأن مسألة الغريزة ليست من المسائل الفكرية بل تتحرك تماماً كما هي النار عندما تصادف شيئاً قابلاً للاحتراق. لذلك فإن الإسلام عندما لاحظ المعنى أراد أن يضع ضوابط للمسألة الجنسية وأن يخلق هناك مناخاً يساعد فيه المرأة والرجل على إيجاد وسائل عملية للعفة بالإضافة للوسائل النفسية والروحية حتى لا يقال إن الحجاب وحده لا يكفي العفة، صحيح ذلك لكن هذا يخلق جواً مؤاتياً في هذا المقام حتى لا تكون المسألة على طريقة قول الشاعر: «ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتلّ بالماء». من ناحية ثانية هناك للمرأة شخصيتان. هناك شخصية الإنسان التي توحي أنها عقل وقلب وإرادة وحركة وأنها عنصر فاعل في المجتمع بحيث ينفتح الآخرون عليها من هذا الموقع على أساس انفتاح الإنسان على الإنسان، وهناك شخصية المرأة التي هي شخصية الأنثى، ومن الطبيعي أن الشخصية الأنثوية هي شخصية تتصل ببعض التهاويل بالجانب الجنسي، لأنها تتصل بالجانب الجمالي وبإحساس المرأة بجمالها وبإحساس الآخرين بالجمال. ومن الطبيعي أن الإحساس بجمال المرأة يختلف عن الإحساس بجمال الطبيعة لأن الإحساس بجمال المرأة يختزن في داخله حركة الغريزة في الانفتاح على هذا الجمال وفي الانجذاب الجسدي إلى هذا الجمال، وهذا الأمر لا يحتاج إلى فلسفة بل أننا نلاحظه في كل العلاقات التي تحدث الآن بين الرجال والنساء بحيث لولا الحواجز الاجتماعية لرأينا الأمور تتجه في اتجاه آخر، لذلك فإن الحجاب بشكله طبعاً المعقول وهو أن تستر المرأة جسدها ما عدا الوجه والكفين، يجعل المرأة تخرج إلى المجتمع كإنسانة لا تثير الرغبة بالشكل الفاقع وإن كان للوجه الدور الجمالي لكنه دور يمثل الجمال الهادئ بينما تنطلق حالات اللا حجاب بتطوراتها التي استغلتها الحضارة المعاصرة التي جعلت المرأة جسداً في الرواية والقصة والمسرح والإعلان وما إلي ذلك بالمستوى الذي يجعل الإنسان ينظر إلى المرأة كمادة للاشتهاء. وهذا ما نلاحضه في المجتمع، وإلا ماذا يربط المدير بالسكرتيرة والموظفات المتعلمات واللواتي يملكن اختصاصاً؟ ولماذا تدور المعاكسات في تلك المجتمعات في الإدارات المختلطة؟ إن الإسلام كان واقعياً إنه يطرح هذا السؤال: هل تريدون الأخلاق؟ اخلقوا لها مناخاتها. لا تريدون الأخلاق لا تحاسبوا أحداً على الانحراف الأخلاقي لكننا في الشرق نجمع بين بعض القيم الأخلاقية وبين الانفلات في الضوابط، فإذ انحرفت المرأة ونحن الذين دفعناها للانحراف يأتي كل رجال القبيلة على طريقة لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى تراق على جوانبه الدم. وبذلك وقعنا في فضيحة قضايا الشرف وغسل العار التي تبرر للرجل أن يقتل ابنته أو أخته أو زوجته بعنوان غسل العار وهو الذي دفعها إلى ذلك.

- ليس انفتاحكم معهوداً لدى رجال الدين. ما قولكم في ذلك وألا يساهم هذا الأمر في ازدياد أعدائكم؟
أنا إنسان لا أعتبر أن الدين يعلّبني بل أعتبر أن الدين الذي يربطني بالله يفتح آفاقي على كل العالم حتى عالم الغيب. أنا أعتقد أن على الإنسان أن يعيش فكره بمسؤولية وأن يعيش حريته بضوابط وأن يتحمّل مسؤوليته في إطلاق الفكر الذي يرى أنه يرتفع بالإنسان حتى يقربه إلى الله ولذلك ليست مشكلة أن يتحدث الآخرون الذين لا يوافقون على هذا الفكر لأن كل الأساليب السباب والشتائم والتكفير والتضليل تغني الفكرة وتقويها أكثر مما تضعفها. إنني أعتبر بكل تواضع أن معركتي مع كل هؤلاء هي معركة حركة وعي مع حركة التخلّف، حركة الإسلام المنفتح على الإنسان كله والعصر كله بأصالته وحضارته مع المفهوم المتخلف للإسلام الذي يريد أن يدفن الإنسان في المغاور والكهوف.

  - هل تزوجتم أكثر من مرة؟
لم أتزوج أكثر من مرة. أنا لا أعتبر الزواج المتعدد ضد القيمة بالرغم مما فيه من سلبيات لأني لا أعتبر أن هناك تشريعاً لا يواجه سلبيات لأن عالمنا عالم محدود. لكن الزواج المتعدد في الوقت الذي قد يخلق فيه سلبية لامرأة يخلق إيجابية لأكثر من امرأة. أنا أتساءل لماذا نحاول دائماً أن ندافع عن امرأة واحدة في قضية إنكار الزواج المتعدد ولا ندافع عن أكثر من امرأة تحوّلن إلي عوانس لو لم ينقذهن الزواج المتعدد. إن المسألة في كثير من المجتمعات هي النظرة إلى القضايا من بعد واحد. إنني أتصور أن الزواج الواحد فيه إيجابيات كبيرة وفيه سلبيات. وإن الزواج المتعدد فيه إيجابيات وفيه سلبيات علينا أن لا نحاول دائماً أن ننظر نظرة سوداء مئة في المئة إلى ما فيه بعض البياض وأن ننظر نظرة بيضاء إلى ما فيه بعض من السواد. إن السؤال الذي يفرض نفسه هو إن هناك كثيراً من الظروف الاجتماعية والأمنية والسياسية  قد تترك ملايين من النساء، بلا زواج ما هو الحلّ لذلك؟
لقد سمعت (ولم أتأكد) أنه بعد الحرب العالمية الثانية عندما قتل الكثير من الرجال بعد الحرب طرح في البرلمان الألماني تشريع تعدد الزوجات من أجل هذه القضية. إن المسألة تحتاج  إلى بحث واسع ولكن المشكلة عندنا في الشرق الإسلامي أن بعض المثقفين أعمضوا عيونهم وأرادوا في الغرب أن يقولوا عنهم إنهم متقدمون فرجموا الزواج المتعدد بالحجارة ولكنهم هللوا للانحراف المتعدد. لو قمنا باستفتاء في الغرب لأكثر الغربيين فكم عشيقة لأكثر من رجل متزوج وقد شرّع الغرب الحق للعشيقة أن تأخذ بعض امتيازات الزوجة في هذا المجال. عندما نريد أن نرجم التعدد بالحجارة علينا أن نرجم التعدّد كله. لماذا نرجم التعدد الشرعي ونتقبل التعدد غير الشرعي؟ هذا هو السؤال الذي يوجه إلى كثير من الذين يسيطرون على العالم الإسلامي باسم التقدم.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1080  |  كانون الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1080