تحميل المجلة الاكترونية عدد 1080

بحث

الجرائم الأسرية تُنذر بالخطر

الجرائم الأسرية تُنذر بالخطر

شهدت الفترة الأخيرة ازدياداً في عدد الجرائم الأسرية بشكل يدفعنا إلى دّق ناقوس الخطر، والبحث عن الأسباب التي أدت الى ارتكاب جرائم أسرية بشعة، يقتل فيها الإنسان أقرب الناس إليه، وأحياناً بدم بارد ولأسباب تافهة. "لها" تفتح هذا الملف الشائك، وتسأل الخبراء وعلماء النفس والاجتماع والقانون عن سبب تزايد تلك الجرائم، وكيف يمكن محاصرتها والتقليل منها.


في البداية تكشف الدكتورة سعاد عبدالرحيم، رئيس المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن هناك دراسة ميدانية أجراها المركز حول الجرائم الأسرية، واتضح أن من أهم أسبابها ضعف الوازع الديني، والاختلال العقلي والنفسي، والضغوط الاجتماعية والنفسية، والأوضاع الاقتصادية المتردّية، وإدمان المخدرات، والتي تؤدي إلى توتر العلاقات بين أفراد العائلة فتدبّ المشاكل في ما بينهم لتطيح الدفء العائلي، حتى أن بعض الدراسات الاجتماعية أكدت أن جرائم القتل الأسري في مصر تشكل أكثر من ربع إجمالي جرائم القتل، وأن أكثر من 90 في المئة من هذه الجرائم تُرتكب دفاعاً عن الشرف، نتيجة الشك وسوء الظن والشائعات والضائقة المالية والأزمات النفسية والإدمان وأصدقاء السوء.

وتشير الدكتورة سعاد إلى أنه لا يمكن إغفال التراجع الكبير في دور وتأثير أساليب التنشئة الاجتماعية السليمة، سواء في الأسرة أو في المدارس والجامعات والمؤسّسات الثقافية، وكذلك ارتفاع معدلات العنف في الأفلام والمسلسلات الدرامية التي تدعو إلى البلطجة والقتل والانتحار.


وتختتم الدكتورة سعاد كلامها مؤكدةً أن القضية خطيرة وتزداد سوءاً في ظل غياب رؤية حقيقية لعلاجها، وفي الوقت نفسه استمرار الأسباب المؤدية إليها، ولهذا لا بد من تحرّك جماعي، سواء من مؤسسات الدولة أو المجتمع المدني، وكذلك المؤسسات الدينية ممثلةً بالمساجد والكنائس، مع وضع ضوابط إعلامية لكيفية تغطية هذه الحوادث، حتى لو وصل الأمر إلى منع النشر حولها، أو فرض شروط على النشر تحول دون الترويج لها وجعلها قضايا رأي عام، وبما أن أفراد المجتمع يعيشون في ظروف مماثلة، يرتكب الجرائم الأسرية كل من يتعرّض لضائقة مالية أو لضغط نفسي فتبدو الجريمة وكأنها الطريق الأسهل للهروب.

حلول غير تقليدية

يطالب الدكتور حسن شحاتة، أستاذ التربية في جامعة عين شمس، بضرورة إعادة النظر في أساليب التربية التقليدية في عصر الفضائيات والفضاءات المفتوحة، التي تجعل أهل الشرق يعرفون ما يجري في الغرب في اللحظة نفسها، ولهذا فإن نشر الإعلام الدولي للجرائم الأسرية وحوادث الانتحار دفعنا إلى تقليدهم، ولهذا لا بد من البحث عن حلول غير تقليدية تشدّد على ضرورة الوعي بأهمية التناسق الأسري، وزيادة الوعي الديني السليم بلا إفراط أو تفريط، ومضاعفة التوعية الإعلامية من خلال البرامج الهادفة الى بناء الأسرة، وتكثيف دور مؤسّسات التعليم واهتمام الأسرة بالقيم والأخلاق.

ويحذّر الدكتور شحاتة من تراجع دور المؤسّسات التربوية في ظل التأثير السلبي لوسائل الإعلام وكثرة أصدقاء السوء، الذين يهدمون ما تتم التنشئة عليه، ويقودون غيرهم إلى التدخين الذي يُعدّ البوابة الذهبية للإدمان، الذي يرى فيه البعض وسيلة للهرب من مشكلات الحياة، فيستهين الشخص المدمن بحياته وحياة أفراد أسرته، إذ يسلبه الإدمان إرادته وقدرته على التفكير المنطقي، ولهذا لا بد من تطوير وسائل وأساليب التربية لتتماشى مع روح العصر.


خلل نفسي

يحذّر الدكتور أيمن عامر، مدير مركز الدراسات النفسية في جامعة عين شمس، من ارتفاع معدلات الجريمة الأسرية في مصر بنسبة 20% خلال العام الماضي مقارنةً بالأعوام السابقة بسبب الخلافات الزوجية أو شك أحد الزوجين في سلوك الآخر، والرغبة من الانتقام من الشريك، أو المرور بضائقة مالية أو أزمة نفسية، أو الإدمان وأصحاب السوء وغيرها من الأسباب التي تؤدي إلى أزمة نفسية وخلل في التوازن النفسي والاستقرار الأسري فتكون النتيجة قتل الآباء والأمهات لأبنائهم، أو العكس، أو قتل أحد الزوجين للآخر والأبناء، وهذا مؤشر خطير جداً على افتقاد الأسرة للأمن باعتبارها الملاذ النفسي الآمن لأفرادها.

ويشير الدكتور أيمن عامر، إلى أنه وفقاً لآخر تصنيف لقاعدة البيانات العالمية المعروفة باسم "نامبيو" التي تهتم بتصنيف الدول حسب معدلات الجريمة، جاءت مصر وللأسف في المرتبة الثالثة عربياً، والـ24 عالمياً، وساهم الترويج الإعلامي لها بشكل مباشر أو غير مباشر بحيث أصبح ارتكاب الجريمة البديل السهل للتخلص من أي مشكلة.

ويُنهي الدكتور أيمن عامر حديثه، مشدّداً على أهمية الجانب النفسي الذي له تأثير كبير، لأن بعض الذين يقترفون تلك الجرائم يعانون فصاماً عقلياً ونفسياً، وهذا المرض يجعل من فكرة التخلص من الدنيا والذهاب إلى الآخرة؛ بل والتفكير في الجنّة، الحل الأمثل، والمنتحر حسب تعاليم الدين الإسلامي سيُخلّد في النار، لأن قتل النفس التي حرّم الله من الكبائر، ولهذا لا بد من نشر ثقافة العلاج النفسي وإيجاد حلول للمشكلات بطريقة عقلانية لتحقيق الاستقرار، لأن المرض النفسي مثل أي مرض عضوي يجب علاجه، وهو ليس نوعاً من الجنون كما تتصوّره العامة.


دائرة القهر

تؤكد الدكتورة عنان محمد، أستاذة علم الاجتماع في كلية البنات في جامعة عين شمس، أن العنف الأسري يقع في دائرة ما يُسمى في علم الاجتماع بـ"دائرة القهر الجهنمية"، وتتمثل هذه الدائرة في ممارسة أحد الزوجين العنف ضد الآخر، يليه قهر أحد الزوجين للطرف الأضعف في الأسرة، وهم الأطفال، حيث يفرّغون شحنة القهر التي تعتمل في دواخلهم في أطفالهم، مما يجعلهم معقّدين نفسياً ولديهم قابلية لردّ القهر مع تقدّمهم في السنّ، ومعاملة بقية أفراد الأسرة بقسوة تصل إلى التعذيب والقتل.

وتشير الدكتورة عنان إلى أن استخدام العنف – بكل درجاته – من الأكبر ضد الأصغر، ومن القوي ضد الضعيف، يؤدي في النهاية إلى ارتكاب الجرائم الأسرية البشعة التي تصدّرت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت حديث المجتمع الذي يقلّد أفراده بعضهم بعضاً في مواجهة بعض المشكلات لتشابه الظروف، ويبدأ الدوران في الحلقة الجهنمية، مما يفسر الارتفاع المستمر في معدلات هذه الجرائم خلال الآونة الأخيرة.


مواجهة شاملة

هذه الظاهرة الخطيرة تستفز بعض أعضاء مجلس النواب المصري، فتوضح النائبة نشوى الديب أن لا بد من التصدّي لهذه الكارثة الاجتماعية في ظل ارتفاع معدلاتها، من خلال حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وقلّة الوعي الديني، باعتبارها أهم أسبابها، وهذا لن يتم بين ليلة وضحاها، وإنما يستغرق سنوات عدة، لكن يجب وضع استراتيجية قابلة للتنفيذ لحلّها.

وتلفت نشوى الديب الى أن تزايد هذه الجرائم في الآونة الأخيرة في البيوت المصرية يُنذر بكوارث حقيقية، لانهيار أهم علاقة اجتماعية، وهي العلاقة التي تربط بين أفراد الأسرة الواحدة، ولهذا لا بد من تحرك برلماني من خلال إيجاد حلول عملية، لأن الأسرة أساس المجتمع، وإذا انهارت تقوّض الاستقرار والتماسك الاجتماعي.

وتنتقد نشوى الديب التركيز الإعلامي المبالغ فيه على تلك الجرائم، مما يجعل البعض يفكّرون في تقليدها إذا تعرّضوا لضائقة مالية، أو ضغوط نفسية أو اجتماعية، ولهذا يجب أن تكون التغطية الإعلامية موضوعية وتستهدف العلاج بنشر التحليل لهذه الظواهر، وتبيان بشاعتها، وتحريم الدين وتجريم القانون لها، حتى يتم التحذير منها بدلاً من البحث عن الإثارة وزيادة نِسب المشاهَدة في الفضائيات أو التوزيع في الصحف، فالإعلام لا بد من أن يحمل رسالة نبيلة، وألاّ يكون مجرد باحث عن الكسب المادي والإثارة.


مفاهيم خاطئة

تحذّر خبيرة التنمية البشرية الدكتورة منى شوقي، من العواقب الوخيمة للتنشئة الاجتماعية الخاطئة، التي تُعدّ السبب الرئيس لازدياد العنف الأسري، حتى اختلطت المفاهيم التي يقتبسها هؤلاء الجناة، الذين يعتبرون أن ضرب الأطفال وإهانتهم وتعذيبهم نوع من ترويضهم، وكذلك إهانة الزوجة أمام أولادها، بل والمجتمع كله، نوع من الرجولة وفرض السيطرة، وهذا سلوك خاطئ يدمّر العلاقات الأسرية، لأن التربية الخاطئة للأبناء وغياب الاحترام المتبادل بين شريكَي الحياة يُنتجان في النهاية أشخاصاً غير أسوياء نفسياً، وبالتالي يستمر مسلسل الضرب والتعذيب الذي يصل إلى القتل أحياناً.

وتطالب الدكتورة منى شوقي أفراد الأسرة بأن يحاولوا التخفيف من حدّة الخلافات في ما بينهم، والبحث عن وسائل أخرى لتفريغ الطاقة السلبية الكامنة في داخلهم، حتى تكون الأسرة مصدر أمان لا وسيلة قتل. والغريب أن الزوج الذي يقتل زوجته وأولاده، أو الزوجة التي تقتل زوجها وأولادها، تظن/يظن أنه يرحمه بالقتل ثم يرحم نفسه بالانتحار.

وتختتم الدكتورة منى شوقي كلامها مؤكدةً أن دائرة العنف ليس لها حدود، ولهذا يُنصح أفراد الأسرة بعدم تفريغ القهر النفسي أو الاجتماعي أو البدني الذي يتعرضون له، في أقرب الناس إليهم، بل عليهم البحث عن علاج نفسي، والابتعاد ما أمكن عن مصدر التوتر.


ثغرة قانونية

تكشفت الناشطة الحقوقية نهاد أبو القمصان، رئيسة المركز المصري لحقوق المرأة، عن ثغرة تؤدي إلى زيادة الجرائم الأسرية بشكل مباشر أو غير مباشر، لأن قانون العقوبات في مواده من 230 حتى 235 يعرّف عن جريمة القتل العمد، والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، بأن الشخص الذي يعقد العزم والنية لقتل شخص مع سبق الإصرار والترصّد، يكون عقابه الإعدام، إلا أن بعض القضاة في القضايا الأسرية يستخدمون المادة 17 من قانون العقوبات والتي تسمى بـ"الرأفة".


وتوضح أبو القمصان أن هذه المادة يستخدمها القاضي بعد قراءة ملف القضية، في ضوء الظروف التي دفعت أفراد الأسرة لأن يقتل بعضهم بعضاً. ورغم ارتكاب تلك الجرائم البشعة التي تصل أحياناً إلى التمثيل بجثة القتيل، يستخدم القاضي الرأفة ويخفف العقوبة درجة أو درجتين، مع أنه يجب عدم النظر إليها بعين الرأفة، بل إنزال أشدّ عقوبة في الجاني حتى يكون عِبرة لمن تسوّل له نفسه ارتكاب جريمة من أي نوع.

وتطالب أبو القمصان بتخصيص دوائر جنائية للنظر في الجرائم الأسرية، لأنها لا تقلّ خطورةً عن جرائم الإرهاب، وتُصيب الاستقرار الأسري في مقتل، وفي الوقت نفسه يجب علاج أي خلل أسري قد يؤدي حدوث جرائم، لأن الوقاية خير من العلاج.

المجلة الالكترونية

العدد 1080  |  كانون الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1080