مستشارة المال والأعمال الدكتورة نادية باعشن: الصحف العالمية لا تزال الرقم الصعب في الصحافة الورقية
لا تُبدل أحزان قلبها بأفراح الناس، ولا ترضى أن تَسْعد على حساب الآخرين. تربّتْ على الأخلاق والفضيلة في كنف عائلة جدّاوية عريقة يصل عدد أفرادها إلى 500 شخص، وكرّست حياتها للعلم، وخرّجت أجيالاً على مدى سنين من عمرها الأكاديمي حين تبوّأت مناصب أكاديمية وتعليمية في أكثر من جامعة، وكانت أهلاً للمسؤولية الاجتماعية في إدارة الشركات "شركة دلّة البركة"، وسعت إلى تمكين المرأة السعودية في إدارة مركز السيدة خديجة بنت خويلد، وعملت مستشارة توظيف لتعطي كل ذي حق حقّه. رسمت حياتها بريشة العلم، ومن خلال العلم اكتشفت أسرار الحياة وفهمت معنى الوجود الإنساني، وباتت جاهزة لاستقبال طالباتها وحلّ مشاكلهن. الدكتورة نادية باعشن مستشارة المال والأعمال في شركات عدة، التقتها "لها" في حوار صريح تحدّثت فيه عن مسيرتها العلمية والعملية، والنجاحات التي حققتها وأبهرت الجميع.
- مسيرة طويلة استقرت في الاستشارات المالية، ما الاستراتيجية التي تتبعها د. نادية في تلك الاستشارات؟
استراتيجية طموحة تتواكب مع رؤية 2030، وتهدف إلى إحداث نقلات نوعية في مجال الموارد البشرية من حيث تخطيطها أو تنميتها لتصبح مواردنا وكوادرنا الوطنية قادرة على تحمّل مسؤوليات هذه الرؤية الطموحة.
- هل تغيّرت النظرة الى الموارد البشرية؟
في الأمس القريب، كانت النظرة الى الموارد البشرية تقتصر على التوظيفات والترقيات والتقاعدات، لكن اليوم يجب أن تنضوي تلك النظرة على جزء كبير من التدريب، الذي سمعنا عنه في الماضي ولم يخرج عن الحيّز النظري، أو عن الحيّز الضيّق في تدريب الحاسب الآلي واللغة الإنكليزية وأشياء بسيطة.
- ما هي المهارات المطلوبة اليوم؟
كل أنواع المهارات... فيجب ألاّ يقتصر الطلب على المهارات المهنية أو العلمية، بل نريد المهارات الإنسانية، والتي لا تعطيها المدارس والجامعات أي اهتمام.
- إلامَ تهدفين من خلال تلك المهارات؟
المهارات الإنسانية بمفهومها العام لا تقتصر على الجهوزية الأكاديمية والجامعية ولا لسوق العمل، بل تجاوزتها للحياة العامة ككل. وهي أيضاً عامل مشترك بين مختلف المجالات إذا تمكنّا من إيصالها الى أبنائنا من الأجيال القادمة، وجيل الشباب تحديداً، فبذلك نستطيع أن نضمن إلى حد ما سلاسة استمراريتهم في التعليم أو في مجال العمل، وحتى في العلاقات الاجتماعية المهمة.
- هذه المنظومة الاجتماعية الإنسانية، إلى أي حد تفتقدها الجامعات والمدارس؟
إلى حد كبير، وسوف أطرح مثالين: الأول هو التواصل Communication، وهنا لا أقصد أبداً التواصل الاجتماعي عبر المنصّات، بل التواصل وجهاً لوجه بين شخصين، والذي يتضمن الذكاء الاجتماعي والعاطفي والنضوج الفكري، لأنها مكوّنات تؤهلنا لتقبّل الآخر والتعايش معه.
والمثال الثاني، أنا من جيل قديم وأتعامل مع جيل جديد، فإن اعتُبرت مخضرمةً أكون قد حملت قيماً قديمة لعالم جديد. قيمي القديمة يُنظر إليها اليوم، فيما عفّا عليها الزمن، لكنها مشتقة من إرثنا التاريخي واللغوي والاجتماعي والإنساني، ومن الجذور والأصول. وبالتالي حين أُسدي نصيحة الى جيل الشباب ويرفضونها ظنّاً منهم أنها قديمة ويُطلقون عليَّ تسمية "كلاسيكية قديمة"، أُجيبهم: لولا الكلاسيكية لما وصلنا الى الحداثة.
- أعتقد أن المثال الثاني يندرج في منظومة أخرى...
السمة أو المهارة التي تدّعيها الأغلبية، ولا وجود لها في الواقع، ويخلطونها مع مفهوم القيادة Leadership، إنما تكمن في التخطيط، سواء في المدى القريب أو البعيد. الجيل الحالي يفتقر الى التخطيط. هو يريد أن يصل الى أعلى درجة في السلّم بلمح البرق من دون تخطيط، حتى غدت حياته فوضى عارمة. فالتخطيط يحتاج الى استعدادات ومعطيات نوليها أهمية كبرى، والكل يبحث عن الثراء السريع والشهرة.
- هذا الثراء السريع الذي أخذني الى إعلاميات وسائل التواصل الاجتماعي واللواتي يُطلق عليهن بلوغرز Bloggers وفاشينيستات... كيف تقرأ د. نادية هذه الظاهرة؟
تلك الفئة لم تدرس أبجديات الإعلام ولا لغته، بل اعتمدت في انطلاقتها الأولى على مقومات تجميلية لا علاقة لها بالعلم، ولذلك بدأت غالبية البلوغرز عملهن كـ"فاشينيستات"، واليوم يُطلقن على أنفسهن لقب "بلوغرز"، لكن الإعلامية ليست "بلوغرز"، لأن الصحافة علم قائم بحد ذاته، ومجال تخصّص، والصحف العالمية خير مثال على ذلك، فهي لا تزال الرقم الصعب في الصحافة الورقية إلى جانب الـ"أون لاين"، فصحيفة "واشنطن بوست" تُعدّ من أكبر الصحف وما زالت توزّع في أنحاء العالم، وكذلك "نيويورك تايمز"، لا تزال الصحيفة الورقية تحتفظ بقيمتها ولها قرّاؤها، وتفخر بالصحافيين الذين يعملون فيها، كذلك الأمر بالنسبة الى المنصّات الإخبارية العالمية، فهي مستمرة في نشر كل جديد ومواكبة الحدث.
- دراستك في أميركا، ماذا علّمتك على الصعيد الإنساني؟
"التطور الإنساني لا يلغي بعضه"، هذه هي القاعدة التي تعلّمتها هناك، وتصلُح أن تُطبّق في الحياة الإنسانية أو الحياة العلمية والعملية، أو التراثية.
- كيف تقرأ د. نادية الاقتصاد؟
اقتصاد العالم يعتمد على الاقتصاد الثنائي والثلاثي والرباعي، إلا اقتصادنا فهو يرتكز على الفرد ويُقصي الآخر. في زمن ما، كان الرجل موجوداً والمرأة غائبة مهمّشة. لماذا نركز على شخص بعينه ونحارب الآخر ونلغيه؟ لماذا لا نسير في موازاة بعضنا البعض؟
- هل هذه المنظومة جاءت من الغرب لتغزو مجتمعنا؟
هي ممارسة محلية فقط، أما في الغرب فلا يبرز عنصر على حساب العناصر الأخرى. وعلى سبيل المثال، استقبلت أميركا هجرات من كل دول العالم، ولم تعطّل فئة على حساب الأخرى حتى أصبح لشريحة المهاجرين حسابها الخاص لدى المرشحين الجدّد لهذا العام، فباتوا يتوجهون الى تلك الشريحة التي لا يُستهان بها لكسب أصواتها، وهكذا نجد كل الشرائح تسير مع بعضها البعض في منظومة جميلة مشكّلةً نسيجاً وطنياً رائعاً، إلا في عالمنا العربي عموماً، والمملكة العربية السعودية خصوصاً، فاقتصادها يقوم على شريحة واحدة، علماً أن الاقتصاد لا يستقيم على نوع ولا على فئة معينة، فالثنائيات والثلاثيات مهمة جداً، لأن المجتمعات تحتاج إلى الشباب كحاجتها إلى الخبرات تماماً.
- وهل هذا ما دفع ولي العهد محمد بن سلمان لطرح رؤية 2030؟
رؤية 2030 قائمة على التنوّع، وقد أعلنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لأنه لم يعُد يريد اقتصاداً قائماً على النفط، بل بات اقتصاداً متنوّعاً لنقل المملكة العربية السعودية من مجتمع ريعي إلى مجتمع منتج ومتنوع بكل أشكاله.
- كيف تنظر د. نادية إلى تلك الرؤية؟
رؤية 2030 شمولية، لكن للأسف، لم يستوعب القائمون عليها والمتنفذون مضمونها ولم يخطّطوا لمراحل. فالمرحلة الأولى تشدّد على الاهتمام بالشباب، وبعد ذلك يأتي الدمج بين القديم والحديث، وصاحب الرؤية أكّد مراراً أن الشباب يشكّلون عنصراً مهماً في المجتمع، ويجب إقحامهم في سوق العمل، لكنه لم يُشرْ إطلاقاً إلى إقصاء الكبار من ذوي الخبرات، علماً أن الاتجاه العام أن تقترح كبرى الشركات على موظّفيها القدامى تقاعداً مبكراً مرفقاً بـ"شيك ذهبي" وكأنهم أكملوا سنين خدمتهم، وهذا يؤدي الى محو تاريخ الشركة وعراقتها، ولذلك فإن الاقتصاد الثنائي مهم جداً للتطوير والتطوّر.
- لكن الرؤية تنحو باتجاه آخر...
هذا صحيح، لأن الرؤية تتّجه اليوم لحفظ التراث، والإرث التاريخي، وقد صدر قرار جديد عن مجلس الوزراء يضم 14 هيئة لكل جانب، ومنها التراث بما فيه الطعام السعودي والملابس لحفظ القديم حتى لا يضيع في زحمة الجديد.
- هل أنتِ عاتبة على منصات التواصل الاجتماعي؟
لا أعتب على الناشطين على منصّات التواصل الاجتماعي، لأنهم شباب مندفعون، وتلك سمة الشباب، لكن عتبي على من ساير الرسالة الشبابية ونسي رسالته الأساسية، واندفع وراء فكر الشباب ورمى بفكره عرض الحائط. وأعتب أيضاً على من ضحّى بمنظومة القيّم عند القدماء، والجديد ما زال يستقي قيمه ويبني منظومته. فكيف أرمي بمنظومة عمرها سنوات وأُهملها وأهمّشها وأركز على الفئة الشبابية؟ وهذا يُحدث خللاً في التوازن بلغة الإدارة، ونحن أحوَج إلى حكمة الكبار في العمل.
- حين كنتِ عميدةً في الكلية وفي الجامعة، تم تخريج عدد كبير من الفتيات استقبلهن سوق العمل بسرعة، ما السرّ في ذلك؟
في الماضي لم يكن سوق العمل يستقبل الخرّيجات، لأن الاقتصاد آنذاك كان يعتمد على الرجل فقط ولا يتحمل الثنائية، ويعمل على تهميش المرأة، علماً أن المملكة كانت بخير لكن اقتصادها أعرج، وقد أدركنا تلك الهوّة بمجيء الأمير محمد بن سلمان حين قال: "لا أحب الوصول إلى 2030 باقتصاد أعرج".
- ما الفارق بين خرّيجات القطاع الخاص والقطاع العام، وهل وضعن بصمة في سوق العمل السعودي؟
وضعت خرّيجات القطاع الخاص بصمة واضحة في سوق العمل السعودي، لأن البيئة في القطاع الخاص تتيح الحريات للطالبات والأساتذة، وهو ما ليس متوافراً في القطاع العام. وأهم ما يميز القطاع الخاص، عدد الطالبات القليل مقارنةً بالقطاع العام، والتدريس باللغة الإنكليزية، وقد جرّبت العمل في القطاعين، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كنت أدرّس مادة تحت عنوان "التخطيط الاستراتيجي" في جامعة الملك عبدالعزيز، وأقف في مدرّج مؤلف من 300 طالبة، بينما في القطاع الخاص لم يكن عدد الطالبات يتجاوز العشرين، لذا كان من الصعب تحليل أكثر من حالة في القطاع العام، أما في القطاع الخاص فكنّا ندرس كل حالة على حدة.
- ألا ترين أن اللغة الإنكليزية باتت تتقدّم على اللغة الأم العربية؟
المدارس الخاصة تهتم باللغتين العربية والإنكليزية، ولم تهمل واحدة لحساب الأخرى، لكن المدارس العالمية التي فتحت أبوابها على مصراعيها في أواخر القرن الماضي، هي التي أولت اهتماماً للغة الأجنبية وهمّشت اللغة العربية.
- لكن، لماذا تعود المبتعثات من الخارج غير مؤهلات للانخراط في سوق العمل؟
السبب هو الاختيار الخاطئ للجامعات. للأسف، الملحقيات لا توجّه الطالبات ولا تساعدهن في الانتقاء، فأول ما تقوم به الطالبة المبتعثة هو دراسة اللغة الإنكليزية في معهد، وتأتي الملحقية بعد فترة زمنية قصيرة، لتجد أن الطالبة لم تتمكن بعد من اللغة، فتطلب منها قبولاً في أي جامعة وإلا عليها العودة، فتبحث عن جامعات تقبل بالمستوى المنخفض للغتها الإنكليزية، والذي يُطلق عليه درجة ثالثة أو رابعة، والضعف في اللغة يدفع الطالبة لاختيار أي تخصص، فتعود الى السعودية حاملةً شهادةً بتخصّص متواضع لا يؤهلها لدخول سوق العمل.
- هل تؤيدين الابتعاث بعد الثانوية العامة؟
أبداً، بل أُشجّع على الابتعاث بعد نيل شهادة البكالوريوس، أي حين يصبح الفكر عند الطلاب أكثر نضجاً.
- هل ثمة دراسة لرؤية 2030؟
لو كان هناك دراسة لرؤية 2030 لاكتشفوا نقاط الضعف التي فيها، عيوبها، مساوئها، وعواقبها.
- في ظل رؤية 2030 تخطت المرأة الكثير من العقبات، وبرزت في الكثير من مجالات العمل، كيف تقرأ الدكتورة نادية هذا الانفتاح؟
الانفتاح ظاهرة صحية، فالمرأة التي هُمِّشت لسنوات طويلة، أصبحت تساهم وتشارك وتحقق النجاحات بعدما فُتحت أمامها الأبواب، في العلم والعمل الإداري والأكاديمي.
- ما هي طموحاتك المستقبلية؟
بعد مسيرة حياتية وعلمية وأكاديمية طويلة، ما زالت قائمة طموحاتي بلا حدود، لكن أتمنى أن أوضع في مكان أنسّق فيه عملية الابتعاث العشوائي، من يذهب؟ وإلى أين يذهب؟ وماذا يدرس؟ وأين يتجه في سوق العمل بعد العودة؟ لذلك أطمح لدراسة هذا الموضوع دراسة عميقة لأرى كوادر تقوم بأدوار مهمة وتفيد المجتمع.
- لكن وزارة العمل أصدرت قرار "وظيفتك بعثتك"؟
ترى وزارة التعليم أنها حققت المطلوب، لكن ما خَفي أعظم، فيذهبون إلى الشركات والجامعات ويوقّعون عقوداً وهمية، فعلى هامش العقد تكون الشركة ملزمة بالتوظيف علناً، وضمناً يتنازل الطلاب برضاهم عن توقيعهم، لأنه عقد من أجل الفوز بالبعثة فقط.
- وهل يجد الطلاب المبتعثون عملاً بعد العودة؟
هناك بطالة في الوسط النسائي تعدّت 32 في المئة، وهو رقم مهول جداً.
- ماذا تقول د. نادية للمرأة السعودية؟
حافظي على النعمة التي قُدِّمت لك، فالنِّعم التي تُمنح إذا لم تُصَن تزول. دخلتُ الغرفة التجارية مرفوعة الرأس، وأنت وصلتِ الى منصبك بجهد نساء مجتمع ناضلن في الماضي من أجل حاضركِ ومستقبلك. فجيلنا، جيل الماضي حارب ونقش في الصخر، وعاش كل اللاءات وكسر التابوهات والممنوعات من أجل حياة أفضل.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024