عين الأم
ترعرعتُ في الحرب الأهليّة، وكبرتُ على أصوات المدافع والقنابل وأزيز الرصاص، وصور الضحايا والمفقودين والمقهورين. أذكُر الزاوية التي كنّا نشغلها في الملجأ عندما كان يشتدّ القصف، والفُرش الإسفنجية البسيطة الموجِعة للظهر التي كنّا ننام فوقها مع شقيقيّ وأولاد خالتي مثل أسماك السردين (رأس وذنب). أذكر أيضاً بيتنا الغارق تحت أكياس الرمال، وطاولة الطعام الخشبيّة الكبيرة التي كنّا نختبئ تحتها كلّما سمعنا دويّ انفجار... نشرات الأخبار المشتعلة، وصور الضحايا والأشلاء، وصوت فيروز يصدُح بالأغاني الوطنية، ثلاثيّ يسكن ذاكرتي الطفولية المتألّمة. انتهت الحرب ونسينا... أو تناسينا. طوينا صفحة سوداء، وانشغلنا بإعادة الإعمار وبناء السلام، أو بالأحرى "وهم السلام". ثم كان انفجار مرفأ بيروت ليعيدَ العبث بذاكرتنا، ويُوقظَ كوابيسها الدفينة. الفرق بين الماضي واليوم أنني أمّ لطفلين، وأنظر الى المأساة وتفاصيلها بعين الأم. وجع الأمّهات الثكالى، وصور الشباب المفقودين والأطفال المشوّهين تُغرَز في قلبي كسكين. فأجدني أصرخ وأمّهات بلادي: لا نريد لأولادنا طفولةً فيها انفجارات،أو حروب، أو بواريد وقنابل... لا نريد أولادنا شهداء، ولا مفقودين، ولا ضحايا حرب، ولا معاقين ولا مرضى نفسيين ولا مشرّدين... إنها صرخة من القلب، سنردّدها ونردّدها ونردّدها، لأن الحياة الحلوة تليق بأولادنا!
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024