تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

عباس النوري

فنان لا يحد طموحه أفق ولا يقوقع هاجسه نجاح، فطموحات كبيرة وكثيرة تجوب مخيلته وتغمر نفسه، وهمه الأكبر أن يتربع على عرش قلوب المشاهدين ليكنز رصيداً من حبهم واحترامهم يمده بدفق من الحماس والتصميم للتقدم بخطوات ثابتة سعياً لتحقيق مشروعه الفني وهاجسه الإبداعي الذي انبرى لتجسيده منذ زمن، وهو اليوم يقف منه على أرض صلبة بناها بدأب وجهد، فرسّخ هويته الفنية الخاصة به كفنان اختطّ لنفسه مساراً فنياً له نكهته وتنوعه... إنه الفنان عباس النوري الذي تابع له الجمهور في شهر رمضان عدداً من الأعمال منها «الحصرم الشامي»، «قلبي معكم»، «شتاء ساخن». وإضافة إلى ما يؤديه من شخصيات لا يزال يتابع مشروعه الحضاري والإنساني والوطني عبر حملة «القدس عاصمة أبدية للثقافة العربية»... معه كان هذا اللقاء.

- كيف ترى مستوى الأعمال التي عرضت في رمضان والتي تندرج ضمن إطار دراما البيئة الشامية؟
أحزن كثيراًُ عندما أرى أن الأداء يجتر نفسه، فهناك شخصيات أتت وكأنها مجرد حشو ضمن الفولكلور الذي يمكن أن تجده في حارة شعبية فقيرة أو في واجهة محلات شارع الحمراء! فهذا النوع من الأداء يشبه التماثيل التي تعرض في «فيترينات» الألبسة مما يجعل الشخصية الشامية تفقد خصائصها الحقيقية. يجب أن يكون التناول حقيقياً ويشبه الحياة وألا تكون الشخصيات بلاستيكية. وأنا هنا لا أضع اللائمة على الممثل وإنما على التناول نفسه عبر الكاتب والإخراج والإنتاج، فأياً كان بات يستبيح البيئة الشامية وغالبية من يكتبون لها هم أميون، وإلا فما علاقة كل ما يُقدم بالحياة؟

- ولكن هذه الأعمال تحصد مُشاهدة كبيرة ولديها جمهور واسع؟
هذا صحيح، فمن يرَ ما يُقدم سيتأثَّر به ومن حقه أن يحس أن له مرجعيات في البيئة. ولكن في الحقيقة أن مرجعياتها في البيئة مفقودة، فعندما أريد أن تؤثر في المُشاهد لماذا لا أقدم قصة حقيقية؟ وإلا فما معنى أن تقدم شخصيات هي بالنتيجة ليست دليل موهبة وإبداع، وهنا لا أحكي عن الأداء وإنما عن الكتابة والإخراج، فهناك تناول أمّي.

- هناك من يقول إن تلك الأعمال تقدم الشام بجماليتها بينما أنتم تشوهونها في مسلسل «الحصرم الشامي» حيث تقدمون التاريخ السيئ عن الشام؟
من قال إن هناك تاريخاً جيداً وآخر سيئاً؟ تنبع النظرة الحقيقية لدى الفنان والمثقف الحقيقي في قراءته للتاريخ بجرأة وقول ما له وما عليه للمجتمع. فكيف وصلنا إلى التخلّف الذي نعيشه في واقعنا في ظل وجود كل تلك القيم المزروعة فينا والتي تدعو إلى العزة والافتخار؟ فالمقدمات الجيدة تعطينا نتائج جيدة، وإن كان تاريخنا بكل هذا الجمال فكيف وصلنا إلى هذا المستوى المتدهور؟

بات هناك اجترار لتناول تاريخ الشام بطريقة مؤسفة جداً، فهل إظهارنا للجانب الحقيقي من تاريخها يعني أننا أسأنا إليها؟ لا بل إننا نؤكد في ما نقدم حضورها كثقافة قادرة على التنوع ومضخّة حقيقية قادرة على ضخ الثقافة بشكل هائل. فالشام التي عاشت كل التنوعات في الدنيا عبر كل الأديان أتت من رحم الأديان كلها حتى ما قبل الأديان السماوية. وبالتالي كيف لنا أن نختصر الثقافة والحضارة بطريقة عمياء لا تنتمي حتى إلى أفكارنا؟ هذا أمر غير مقبول. أصبحنا «شاطرين» في قراءة تاريخ غيرنا بجرعة عالية من العلمية والدقة والموضوعية، أما تاريخنا فلسنا قادرين على قراءته بالمنطق نفسه، فهل من المعقول أن تكون الشام عبارة عن مجلس عضاوات وزعيم وبعض القبضايات؟

الملا والغزل الإعلامي

- ماذا حل بمحاولات الصلح بينك وبين المخرج بسام الملا وبالغزل الإعلامي بينكما؟ وهل سنراك في الجزء الخامس من «باب الحارة»؟
لن أعود إلى «باب الحارة» وأرى أن الغزل الإعلامي هو تصفية حساب مع غيري وليس معي.

- لكنه أعلن انضمامه للحملة الشعبية التي تقودها حول «القدس عاصمة أبدية للثقافة العربية»؟
هذا موقف يُحترم عليه، ولكنه موقف ليس لصالح عباس النوري إنما لصالح القدس، فهناك العديد من الفنانين الذين وقعوا متضامنين مع هذه الحملة.

- ما أخبار هذه الحملة حالياً؟
أتبع أسلوب السير بشكل هادئ في هذه الحملة وأصر على أن تكون بعيدة عن كل ما هو رسمي فأحصنها أهلياً كي لا تلوث بالأفكار المسبقة. وما أقوم به ليس رداً سياسياً رغم أنه سيدخل في إطار الرد السياسي في بعض الأحيان، وليس لدي مانع من أن تكون هذه الدعوة مطية لدى بعض الحكومات لتؤكد حضورها السياسي في صراعنا مع العدو الإسرائيلي، لكننا نؤكد من خلال هذه الدعوة ضرورة أن يحضر الوجدان في الساحة الوطنية العربية. فالوجدان يقودنا إلى الاعتراف بأن لنا انتماء هذا جذره والانتماء هو القدس التي يقوم الإسرائيليون فيها بما يقوم به أي حكم سلفي سواء كان إسلامياً أو مسيحياً. لكن القدس لا تقبل هذا الانغلاق وبالتالي ما يجري هو كلام موقت لأنهم وإن حفروا في الحجارة أسماء عبرية فالأسماء والأحجار زائلة والقدس تبقى. إنها عاصمة الله على الأرض.

- إلى أي مدى الفنان معني بالشأن العام؟
علاقة الفنان بالشأن العام مسألة نسبية وشخصية بشكل من الأشكال، فأنا أبدو للكثيرين وكأنني صاحب هم سياسي ولكن ليس لي علاقة بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، لا بل إنني أفشل سياسي. علاقتي بالشأن العام هي علاقة وجدان وحرية اعتقاد.

وهنا دعني أتساءل هل ذهاب فنان سوري إلى غزة ينبغي أن نجعل منه حدثاً إعلامياً يفوق كل ما جرى في غزة، علماً أنه يؤدي واجبه الوطني والقومي والإنساني؟ ولكن ماذا فعل في غزة؟ هل قدم مساعدات إنسانية، هل أكد أن هناك فعلاً ثقافياً وسط ذلك الدمار مازال يؤسس لأن تعيش غزة. فحتى فنان بحجم دريد لحام يبدو أنهم لم يسمحوا له بأكثر من فعل الزيارة على مستوى الضجيج الإعلامي، بينما هذه الزيارة كان يجب أن تؤسس لأعمال إنسانية أهم ولفعل مقاوم. وهنا أرفع القبعة للفنان دريد لحام، فهو أستاذ كبير وقد مثّلنا كلنا عندما ذهب إلى غزة.

- هل وجدت ما توقعته من تفاعل عربي من المبدعين والفنانين والمثقفين؟
لو أردت أن أجعل لهذه الحملة رعاية إعلانية عبر مؤسسات حزبية أو سفارات أو حكومات لكانت الحملة الآن في الذروة ولفعلت فعلها في الضغط على جامعة الدول العربية نفسها. وكان هذا الأمر ومازال متاحاً، ولكني لم ولن أجعلها إلا أهلية ولتسير بهدوء. واليوم نجوم سورية كلهم معنا في هذه الحملة وهناك مبدعون عرب انضموا إليها منهم لطيفة التونسية.

- إلى أي مدى تساهم الأقنية المشفرة في وأد العمل الإبداعي؟ وإن كانت كذلك لماذا يتم التعامل معها بمعنى أنكم تعرفون علتها وتقبلون بها ومن ثم تنتقدونها؟
مازالت أعمال «أولاد القيميرية» والأجزاء الثلاثة من «الحصرم الشامي» معتقلة في «أوربيت»، وأرى أنها مسلسلات تعبر عن البيئة الشامية بشكل حقيقي وموثق وقدمت شخصيات من لحم ودم تنتمي إلى زمان ومكان. ولكن لم تتحقق الوعود التي قطعتها أوربيت بإقامة قناة مفتوحة ويبدو أن تلك الوعود تنتقل من عام إلى آخر وحتى الآن لم تتحقق. والخوف أن عقودنا مع القنوات المشفرة ينبغي أن ترافقها عقود مع قراصنة (الريسفرات) حتى يفكوا التشفير ويتسنى للناس مشاهدة أعمالنا. فنحن نفقد قيمة أعمالنا عندما لا يراها الناس. وما يؤلمني كوني صاحب مشروع أن هذا المشروع لا يرى النور. لقد وصلنا في المفاوضات مع أوربيت أنا وسيف الدين سبيعي إلى درجة أننا كنا نفاوض لعرض العمل على محطات محددة وبتنا أشبه بموزعيين متطوعين، ولكن لم يسفر ذلك كله عن شيء.

وفي ما يخص تعاملنا مع قناة مشفرة فأنت لا تستطيع أن تلقي باللائمة على الفنان، ولكن من حقك أن تلوم من أشرف على الإنتاج. فالمشفر هو خياره ولكن في المقابل يوفر لك فرص العمل ضمن خيار يتمتع بمستوى فني راقٍ. وفي النتيجة المشروع قائم على محطة مشفرة وهو حقهم كمنتجين، فصاحب رأس المال هو صاحب القرار.

أعمال تشبه الحياة

- ما الخلطة السحرية في مسلسل «قلبي معكم» التي استطاعت جذب الجمهور؟
كل عمل يشبه الحياة والواقع فعلاً ويحاكي الناس سيحمل علامات النجاح، كما أن الأعمال العاطفية قد تأخذ بعداً خاصاً لأن الجمهور العربي عموماً متعطش لإظهار هذا الجانب. فالعاطفة لا يمكن أن نلغيها من حياتنا ومن تكوين شخصيتنا لأن لها شأناً كبيراً وأساسياً داخل كل منا، ولكنها للأسف الشديد هي في داخلنا عاطفة مهزومة ومنقلبة على نفسها ومكبوتة ملغومة ومقموعة قمعاً شديداً. فمنذ الصغر تبدأ شخصيتنا بالعيب وتنتهي بالحرام، لا بل هناك الكثير من الأزواج في منطقتنا العربية يخجلون من قول كلمة «أحبك» لزوجاتهم وهناك من لا يعبرون عن حبهم حتى لأولادهم. وبالتالي هي عاطفة مكبوتة، فكلمة أحب هي كلمة في حياتنا ولها مفعول سحري وتشكّل في أحيان كثيرة أقوى دافع في الحياة لبناء مستقبل جميل وحتى لاكتشاف قوانين يمكنها تحصين المجتمع وعلاقاته.

- هل يعتبر العمل دعوة لنبش العواطف الكامنة في داخل كل منا؟
إنه دعوة إلى النظر في أنفسنا بشكل جريء جداً حتى لا نخجل من عواطفنا، وندفع ثمن مسؤوليتنا عنها لأن الشعور الذي نمتلكه ينبغي أن يكون شعوراً مسؤولاً وليس كيفما اتفق. والسؤال: ألا يحق لنا أن ندافع عن إنسانيتنا؟

- كيف دخلت العوالم الطبّية في شخصية «بشر» من ناحية مفردات التعامل الأدوات والمعرفية؟
رافق العمل طبيب مشرف بشكل دائم على كل تفاصيل الجانب الطبي، ولم نلجأ إلى أي افتراض وإنما كنا ملزمين بسلوك طبي مسؤول. وهذا الجانب هو احد جوانب الطبيب «بشر»، إلا أن هناك جانباً أكثر أهمية يتعلق بقوله كلاماً مفقطاً لأنه مسؤول عن كلامه.

- كيف أبرزت الجانب الإنساني لدى (وكيل) في (شتاء ساخن) لتحقيق نوع من تقبل الجمهور له رغم أنه شخص خارج عن العدالة؟
«وكيل» إنسان عادي جداً دفعته ظروف معينة إلى أفكار مريضة فيتبناها. وبالتالي هو لا يشكل تنظيماً أو عصابة، كما أنني لا أؤدي شخصية شريرة وفقط فهي شخصية من لحم ودم.

- كيف بررت علاقته مع ابنه الضابط والصراع المنبثق منها؟
عادة صيغة تقديم هذا النوع من اللحظات والعلاقات الشائكة ما بين أب متهم وابن يُمسك والده باتهامه ولكنه لا يستطيع القبض عليه هي لحظة ميلودرامية. ولكي لا تٌقدم ميولدراما ينبغي أن تُقدم الواقع في أعلى صيغة ممكنة من الواقعية. والأمر لا يتعلق فقط بالأداء التمثيلي والعلاقة بين الممثلين والشخصيات، وإنما هي صيغة للإخراج. كنا نريد تقديم صدمة حقيقية للمشاهد كي يرى الخذلان الذي تتعرض له الشخصية في موقف استثنائي وصعب. وقد حاولت تقديم «وكيل» بأعلى درجة ممكنة من الواقعية.

- كيف ترى مستوى ما قدم من أعمال في رمضان؟
 النوعية اليوم أفضل بكثير، فانكفاء الإنتاج ساهم في بروز النوعيات. وأعتقد أن نسبة عالية من الأعمال السورية وفِّقَت في تقديم الوجه الحقيقي للفنان السوري بشكل فعلي وإظهاره على أنه مسؤول ولازال يتمتع بحماس التجربة ويشعر بقضايا مجتمعه وأمته ويعبّر عنها، ويقدم أعماله انطلاقاً من هذا الشعور.

وإذا نظرنا إلى ما يُعرض على الشاشات العربية نجد أنه حتى المصريين أصبحوا أكثر دقة في خياراتهم هذا العام ولكن تشكل تلك الأعمال مجتمعة مجزرة على القنوات الفضائية العربية مما أفقد المحطات هويتها وسط هذا الزخم الدرامي العربي وبت بالكاد تعرف المحطة من الشارة الخاصة بها. وبالطبع إلى جانب ذلك كله تشاهد المسلسل الإعلاني المعهود.

المخرجون الحقيقيون

- في لقاء سابق قلت: «في كثير من المسلسلات ومنها الشامية أقوم بإخراج الشخصيات التي أقدمها وذلك إن كان هناك غياب للإخراج الحقيقي»... فإلى أي مدى يعتبر كلامك إدانة للمخرجين اليوم؟
حصل معي ذلك فعلاً، فأحياناً تُفاجأ أن مخرجاً وإن كان اسمه لامعاً غير قادر على ضبط الأمور، وهنا أرى أن كل ممثل هو مخرج صغير في دوره عبر ترتيب علاقته مع شركائه من الشخصيات الأخرى، فعلاقته معهم هي إخراج بشكل من الأشكال، والمخرج الحقيقي هو الذي يربط هذه العلاقات ويجعل لها مفاتيح تفسّر نفسها في مواقفها الدرامية. أما في ظل غيابه فألجأ إلى التعويض.

- سبق أن قلت أيضاً: «لن أؤسس شركة إنتاج لأنني لو فعلتها سأتعلم كيف ألا أكون عادلاً فالإنتاج حتى الآن هو تجارة وليس فناً ونادراً ما يتحول إلى فن وعندما يتحول إلى فن سأكون أول المنتجين». هل يعتبر كلامك إدانة للفنان المنتج؟
لا بل على العكس فأنا أؤكد أهمية الفنان المنتج. وإذا نظرنا إلى تجربة أيمن زيدان عندما كان مديراً لشركة نجد أنه قدم رؤيا إيجابية وأنتج أعمالاً بغاية الأهمية لأن خيارها الفني ذا بمستوى مهم. وهناك تجربة سلوم حداد وكذلك الأمر بالنسبة لتجارب دريد لحام في أعماله الإنتاجية كما أن تجارب ياسر العظمة مهمة. ولكن هناك بعض التجارب يُثار حولها ألف سؤال وسؤال، فإذا كان هذا مستواها فالأفضل أن تقف عند الذي قدمته، بمعنى أنها حققت ربحاً فكفى المؤمنين شر القتال.

- ما جديدك في القاهرة؟
لا تزال المسألة في إطار الدراسة الهادئة. هناك مشاريع تلفزيونية في القاهرة ولكنني كسول في اتخاذ قرار العمل هناك رغم أنه من حقي الطبيعي أن أجرب والتجربة في حاجة إلى جرأة.

- ما أهمية جائزة الإبداع الفني التي نلتها في الملتقى الإعلامي العربي؟
عندما طُرح اسمي للاستفتاء العام وأتت الإجابات بمنحى إيجابي حمّلني ذلك مسؤولية كبيرة. لذلك عندما سافرت إلى الكويت لتسلّم الجائزة كنت كمن ذهب ليشتري الخوف على نفسه، واعتقدت جازماً أنه لو كانت الجائزة لغيري لأحسست أنها لي أكثر وكنت فرحت بها بحرية أكبر. لقد حمّلتني الجائزة هماً وجعلتني أشعر بأن علاقاتنا في الوسط الفني لا تزال مرتبكة لأن قليلين جداً تقدموا إلي بالتهنئة لحصولي على الجائزة في وسطنا الفني. وهذا واقع مريض، لكن أعتقد أن النوايا تبقى طيبة.

- لماذا رفضت المشاركة في فيلم سينمائي للمخرج سمير ذكرى بعنوان «حراس الصمت»؟
أتمنى على المخرج سمير ذكرى أن يضيف نفسه إلى قائمة الحراس أو أن يجعل نفسه رئيس حرس للصمت، وأنا من الصامتين...

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079