تحميل المجلة الاكترونية عدد 1075

بحث

مارسيل خليفة

ملأ الفضاءات وسما بقضيته التي غابت عن الفضائيات المتكاثرة. هو الأسر الجميل والمُجاهر بالرسالة الفنية والإنسان الذي ما زال يغرف من ذهبِ قصائد من ذهبَ باكراً قبل تحرير أرضه، الفلسطيني الراحل محمود درويش. مارسيل خليفة العميق ببوح وتره والعملاق بوقع ثورته في هذا اللقاء..

- نبدأ مع النهاية وحفلة «بيت الدين» الإستثنائية مع غنائية «أحمد العربي» التي قدّمتها مع أوركسترا الشباب الفلسطيني. كيف تصف لقاءك بأبناء «إدوارد سعيد»؟
في اللقاء الحميم في مهرجان بيت الدين وعلى وقع غنائية «أحمد العربي» التي كتبت موسيقاها سنة ١٩٨٢ عن قصيدة درويش «أحمد الزعتر»، أكثر ما يعنيني في هذا العمل وإعادة تقديمه مع أوركسترا الشباب الفلسطيني هو إنسانيته والقدرة على إعادة الدهشة من جديد وذلك رغبة في التعبير عن فرح غامض، عن سعادة ما وسط هذا الظلام الدامس، علّنا نستطيع أن نغيّر هذا العالم ونستبدل فوضاه بإيقاع الموسيقى. بالطبع ليس سهلاً الكلام عن الموسيقى، بمعزل عن حالتنا العامة ووضعنا الشامل. كيف نستطيع أن نحرّض الناس على الفرح لا الغياب، على الحياة لا العدم. نحن الذين لم يبق لنا في هذا العالم إلاّ «الحلم» نتمسّك به كخشبة خلاص ضد هذا المد الطافح بالكراهية والبؤس. يحدّق بنا الخطر دون أن نملك دفاعاًً غير هذا الشعر وهذا النشيد، والإيمان الأعظم بأننا ذاهبون إلى مستقبلنا الذي نريده ونحلم به، رغم كل محاولات تعطيل خطواتنا وتعويق ذهابنا الفاتن.

- ماذا يمثّل قدوم هؤلاء الفتية إلى لبنان؟
أتت أوركسترا الشباب الفلسطيني إلى لبنان وهي تابعة لمعهد إدوارد سعيد للموسيقى في القدس ورام الله، ولقد رأيت في هذه المشاركة موقفاً ثقافياً، إبداعياً، إعلامياً، تجدّد بطبيعتها وبشعارها حقيقة يقولها كل منا بطريقته، بعمله، بموقفه  وخاصة عندما يكون الوطن محتلاً وعندما تكون فلسطين محتلة. فليست الموسيقى محايدة وموقف الموسيقى ليس إلاّ في قلب المواجهة المحرّرة للوطن، المحرّرة للإنسان. وهذه المشاركة للأوركسترا الفلسطينية تعتبر وجهاًً من وجوه التعبير عن مسؤولياتنا تجاه الثقافة الموسيقية نفسها، وتجاه شعبنا وأوطاننا في آن واحد. نرفض فيها تهمة «التسييس» التي تشهر بوجه الشعر والموسيقى والأوركسترا، ولا تشهر إلاّ لعرقلة نهوض هؤلاء الفتية إلى إتخاذ موقف ثقافي ووطني.

- من يعرقل مشروع الثقافة-القضية والثقافة-الإبداع الهادف؟
إن المروّجين لهذه «التهمة» هم الذين يمارسون أبشع أنواع السياسة. سياسة تدمير الثقافة وإخضاع المثقفين لقوى القهر المتعددة الأشكال ، سياسة إخراج المثقفين من معركة شعبهم، سياسة «تهميشهم». في حفلة «بيت الدين» رفع الفلسطينيون آذان وتراتيل إستقلالهم، فلا مفر من الحرية. ولقد قلبت آلاتهم الموسيقية كل المعايير وأعادت الكثير مما غاب عن المعاني، لقد إكتشف العالم أن هناك أوركسترا في فلسطين. وها هي صورهم تطارد الجندي الإسرائيلي بعزفهم وإتقانهم وتفوقهم. الموسيقى في سهرة «بيت الدين» ذهبت بالأوركسترا نحو سماء جديدة لأحلام هؤلاء الشباب. إختلط الواقع بالأسطورة في ذلك الشارع، في تلك الساحة، في المخيّم، يطلعون من أرضهم، يلعبون ويعزفون النشيد المغمّس بالدم والحياة.

- ما هي الفرص المتاحة للأوركسترا بتقديم أعمال موسيقية ك«أحمد العربي»؟
ربما قد لا يجدون فضاء أكثر رحابة لبذر إبداعهم من قلوب الناس. تلك القلوب التي يصدر عنها الإبداع فيما يذهب إليها. ومن دون التوقّف كثيراًً أمام الصعوبات المتوقعة في الظروف العامة. تلك الملابسات التي سوف تسعى دوماً لمحاصرة هذا الإبداع الإنساني الحقيقي والحدّ من إمكانات تحققه وفاعلية دوره الإجتماعي، خصوصاًً في ما يتعلّق اليوم بالمفاهيم الغامضة لشروط السوق والتسليع الفاجر للفنون من خلال الفضائيات والأرضيات المتكاثرة، لا بد أن يدركوا وسائل عمل مع هذه اللحظة الكونية البالغة التسارع والتحولات، فهذه الأمور يجب ألاّ تكون عائقاً يحول دون تقدّمهم نحو أحلامهم، متمسكين بدورهم الإنساني. في معهد إدوارد سعيد للموسيقى في فلسطين جائزة بإسمي وقد كان تكريماًً خاصاًً من إدارة المعهد عندما حصلت على جائزة الموسيقى سنة ١٩٩٩ من وزارة الثقافة الفلسطينية وقدّمت قيمة الجائزة المادية للمعهد. بادروا إلى إنشاء جائزة لموسيقى آنذاك وما زالت لليوم هذه الجائزة تمنح لطلاب متفوقين ولقد أثبتت هذه الجائزة أن ثمة أجنحة كثيرة توشك على الريش يتوجب مساعدتها على التحليق. وليس عليّ إلاّ المتابعة لصقل موهبة الطيران لدى أكثر الكائنات مقدرة على الحلم.

- ما هي نصيحتك لهؤلاء الشباب في الأوركسترا؟
رنّموا ترنيماً جديداً. وإسهروا على حماية الموسيقى لتصبح حصناً لا يهزم. لا تهدأوا في مكان ولا في قالب ولا في حالة. إبحثوا عن شمس حارقة حتى لو ذابت في أفق بعيد. تعلموا كل يوم الحب والشوق والولع والتخيّل والغناء والموسيقى. كونوا صوتاً مبدعاً لا مستتبعاً. كونوا بياناً موسيقياً جديداً تستأنفون فيه بالتعبير الجمالي ما بدأه  إدوارد سعيد والذي يحمل معهدكم إسمه في سِفره الكبير- سِفر تكوين لغة جديدة تتواصل بأصالة مع تراكم الذاكرة، لكنها تفتح تجويفاًً في شرايينها كي تضخّ فيها الحياة والحداثة، فتحملها إلى رحاب الوطن.

- كيف نمت علاقتك الوثيقة بفلسطين؟
عندما كنت صغيراًً وآتي من ضيعتي عمشيت إلى المعهد الموسيقي الوطني في بيروت كنت وأنا أعبر بوابة المدينة أرى أحياء الصفيح وأتساءل من الذي يسكن في داخلها. وكانت المخيمات، مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. ومن يومها وأنا أحاول أن أقدم موسيقى، أغنية، حفلة، جائزة تخدم القضية، ومنذ ثلاثين سنة ذهبت في رحلة فنية إلى المستقبل الغامض - أحبه غامضاً دائماً- وظلّ الحلم يراودني مع إحياء أمسية موسيقية على أرض فلسطين السليبة. ومرّت الأيام وما زلت أنتظر هذا اللقاء.

- ما تأثير الإنتماء إلى الوطن الأكبر والألم المتسلّل من الأراضي المحتلة على مارسيل-الإنسان؟
هل تستطيع أمسية موسيقية على أرض فلسطين أن تخلصني من ثقل أشياء عديدة ترمي بوزنها على الذاكرة كما على الجسد والروح؟ كأن سنيّ الحياة تهرب ونحاول أن نلتقطها، أن نستوقفها، أن نستدعي كل شيء مجدداًً لنروي في رنينها ومع إيقاعها بشكل مفتوح قليلاً من المعنى لهذه الحياة. وليست علاقة الإنتماء التي تربطني بفلسطين، أرضاً وشعباً، سوى واحد من بين العناصر العديدة التي أعتز وأمجّد بها حياتي بلا تردّد. ربما الحياة سوف تخلو من هذا المغزى إذا خلت من هذا الإنتماء أو من هذه العاطفة وإفتقرت إلى الحب، لأنني أرى مع الإنتماء سلوكاًً إنسانياًً من الدرجة الأولى. فتجريد الفلسطيني من حقه في الحياة على أرضه قد مسَّ شغاف كياننا بأكمله. وعندما يمس الفلسطيني الجزع، ينال منا الوجع حتى العظم. أحب فلسطين وأحب شعب فلسطين. وهذا حق مشاع ليس لأحد مصادرته. بالطبع هذا الحب يشاركني فيه الملايين الذين سبقوني إلى إحتضان القضية التي ولدت من صخرة الجبل متميّزة برهافة عصفور. نضع فلسطين تحية في كل صباح وتعويذة للمناعة ونرفع صوتنا معلنين: «يا أهلي في فلسطين لكم إخوة لا يحصون وما على الطغاة إلاّ أن يبحثوا بجندرمتهم وصليل سلاسلهم لملاحقة إخوة لا يُحْصون».

- ما كانت وجهة عناوين مفكرتك الفنية هذا الصيف؟
أقلّب المدن صفحة صفحة. لقد شاركت في المهرجانات الموسيقية العالمية والمحلية في الصيف، صور وبيت الدين وقرطاج وأصيلة والرباط والحسيمة وجربة. ولقد قدّمت الكونشرتو العربي الذي كتبته للآلات الموسيقية العربية كالناي والعود والقانون والبزق والرق مع الأوركسترا الفيلهارومونية بقيادة المايسترو العالمي لورين مازيل في مسرح Alla scala في مدينة ميلانو وفي مسرح الشانزليزيه في باريس وفي أوبرا كينيدي سنتر في واشنطن وفي مدينتي باليرمو ولوكا الإيطاليتين. والكونشرتو العربي سجّل وصوّر ولكنه لم يصدر بعد، كان محاولة جديدة لأن تبقى الموسيقى أولاً عنواناً لمشروع فني ومن ثم تصدر عنه كل البطاقات الأخرى. والموسيقى تتسع للإنسانية كلها لتأتي بكامل سطوتها كلسان كوني وحيد، تتحرك حولنا وتملأ الفضاءات. تجربة حضنتها بتمعن وكانت الموسيقى وسيلتي الوحيدة للإحساس بالوجود العربي والبرهنة عليه. ولقد حقق هذا الكونشرتو إهتماماً كبيراً من قبل  فنانين كبار مثل المايسترو العالمي لورين مازيل. وما كتبته في هذا العمل هو تعبيري عن الإرتباط العضوي بين اللغة الموسيقية ومرجعياتها الواقعية في أرضنا وذاكرتنا وتراثنا.

- ما الهدف من تقديم «الكونشرتو العربي» المغيّب لـ«الكلمة الفلسطينية» إلى المستمع العربي؟
 لقد بحثت عن بذور عملي في ذاكرة عربية غنية وفي الإيقاعات والمقامات. وأدرك جيداًً أن صورتي لدى المستمع العربي نمطية ويتوقّع منها هذا المستمع أن تكون مخلصة ووفية في مرآته أي أن أبقى أسير التعريف لأنني فنان ملتزم بقضايانا العربية وبالأخص بالقضية الفلسطينية. وهذا التعريف يعني أن أعرّف كفنان متخصّص في موضوع واحد. ولكن أعمالي حملت ومنذ البداية ذاتاً فردية تحكي إنسانية الإنسان المقهور والمسلوب والمحاصر. هكذا هو عملي وهكذا بحثت عن إنسانية هؤلاء الناس، عن حياتهم الشخصية وهذا هو مجال المؤلف الموسيقي. إنها خاصية موسيقية وإنسانية عامة مع الإعتراف بأن الموسيقي العربي مطالب أكثر من غيره بالتماهي مع هويته لأنها محاصرة ومسلوبة. السؤال الجمالي وفاعلية هذا السؤال من خلال الإبداع مهمان جداً. أن يكون المرء موسيقياً عربياً هو شيء أصعب من أن يكون موسيقياً من مكان آخر. النقد الفني العالمي أنصف الكونشرتو العربي ونظر إلى الإنجاز بمقاييس فنية دون أن ينشغل بالتدقيق في جنسية العمل. سيصدر العمل على أسطوانة، وهو عمل مهم جداً،لأول مرة أكتب المقامات العربية المعتمدة ربع الصوت بمرافقة الاوركسترا الفلهارمونية التي قادت إلى توافق صوتي جديد.

- هل تحمل همّ «العالمية»؟
العالمي أساساًً هو العالمي في وطنه بمعنى أن يحمل مع ذاته سمات إنسانية تعني مستمعاًً من خارج المكان، أي أن يحمل مشتركاً منطلقاً من خصوصية محلية. المهم مدى إختراق هذه الموسيقى التي قدمناها في جولتنا العالمية نسيج الحياة الثقافية في البلدان الأخرى. الموسيقى في آخر المطاف ليس لها وطن ضيق، الموسيقى تتحرّك في فضاء إنساني. والموسيقى العربية الحديثة ليست فقط إبنة الموسيقى القديمة، إنها وليدة مجمل تاريخ الموسيقى الإنسانية في الماضي والحاضر. فلنحاول أن ننتصر بالموسيقى، لأن في ذلك تفوّقاً حضارياً وثقافياً مهماً.

- كيف تصف «الثقافة» في بلد غابت عنه الحرية؟
لا تكون ثقافة إلاّ متى كانت حرية. الحرية للثقافة شرط وجود أو هي بهذه المثابة. ومن ليس حراًً دونه ودون الإبداع الثقافي مساحة الفراغ الذي لا يحد. وحيث لا تكون حرية، يمكن للثقافة أن تكون أي شيء آخر غير أنها ثقافة.

- أين يقيم مارسيل خليفة اليوم؟
منذ ثلاثين عاماًً حتى اليوم، لا أقدر أن أكون في مكان أكثر من ثلاثة أيام، أنا في تنقّل دائم. أسكن الطائرة، لست في مكان ثابت، أنا في جولة دائمة، في ندوة وفي إحتفال وفي مهرجان وفي تدشين..

- أين تتجلى ألحانك إذاًً؟
 في كل الأمكنة، في الطائرة وفي الطبيعة. أحب الطبيعة كثيراً ولا أبحث عن مصادر موسيقاي في الآلات بل أستلهمها من الكتب والسفر والرواية والفيلم السينمائي. كما أقرأ للكثيرين في الدول العربية وأتلقى الكثير من القصائد. لقد لحّنت لكثير من الشعراء، شوقي بزيع وعباس بيضون وحسن العبدالله ومحمد العبدالله وطلال حيدر وخليل حاوي وأدونيس وقاسم حداد ومرام المصري وهالة محمد وعمل متكامل لزاهي وهبي لكنه لم يصدر.

- هل سيحمل الجديد كتابة موسيقية مجردة من الكلمة؟
هناك عمل جديد للشاعر الراحل  محمود درويش أنجزته منذ فترة ولم أشأ أن يبصر النور مرتبطاً بحدث ما، سيطرح على إسطوانتين تضمّان عشرين عملاً من أكثر من ديوان وأعمال نثرية بعد أربعة أشهر تقريباًً. أغرف من هذا التراث الكبير الذي شعرت منذ البداية أنه كُتب لي.

- قلت أن أمك تشبه أمه، هل فعلاً تتشابه السيدتان حورية درويش وماتيلدا خليفة رحمهما الله؟
كل الأمهات متشابهات وجميلات. أمي رحلت باكراً وتركت فقداً كبيراً بغيابها وهي كانت المحرّضة إلى أن أكون موسيقياً. لولاها كنت إنساناً مختلفاً.

- هل إخترت آلة العود منذ البداية؟
لم أتمنّ الحصول على آلة العود بل جلبه والدي لأنه كان الأرخص ثمناًً. لاحقاً أحببت هذه الآلة.

- هل تذكر يومياتك الموسيقية الأولى في المعهد الموسيقي حين كنت طالباًً؟
كنت طالباً متفوقاً، كان عندي ثورة منذ البداية وكنت أخترع برامجي وتماريني الموسيقية. وكان يتواطأ معي أستاذي فريد غصن. إقترحت أن أكتب تمريني دون الإلتزام بالمادة وحزت علامة كاملة. منحت فرصة وهناك من لا يحظى بها في ظل القمع.

- في حفلة مدينة صور كان هناك حضور سياسي رئاسي إلى جانب الشعبي، ماذا يعني لك الأمر؟
جيّد، لكنه لا يضيف إلي شيئاً. الناس هم الناس يتوحدون في السمع والإنشاد والموسيقى. وليست المرة الأولى، لكن زيادة الخير خير بثلاثة رؤساء.

- هل تذكر أصداء حفلتك في الملجأ والقصف يتساقط على مدينة صور؟
نعم، كان هناك الكثير من الحضور رغم كل الخطر الإسرائيلي الذي يسقط على المدينة، كان الملجأ مليئاً بالناس والمستمعين. الأغنية كانت في تربتها في مكانها وفي أرضها وما زالت. صور فيها كل عبق المكان، كذلك في بيت الدين وقرطاج التي قدمت فيها هذا العام حفلة إستثنائية بحضور ١٥ ألف عربي وفي الحسيمة ٨٠ ألفاً.

- قلت في حفلة قرطاج إن ثمة «إنهيارات عربية»؟
الإنهيارات والإنكسارات موجودة في كل الوطن العربي، أنا مواطن أنوء الهمّ العربي.

- كيف تصف الإنهيار اللبناني؟
هو إنهيار شامل وليس لبنانياً بل عربي. لم يستطع القرار العربي أن يدافع عن الناس وحقوقهم الإجتماعية والفكرية والسياسية والثقافية. يجب إعادة صياغة مشروع سياسي وفكري مختلف عن السائد. علينا ألاّ ننتقد ما نتلقاه بل الإشارة إلى من يرسل لنا «الطُعم حتى يصير فينا هيك».

- كيف تعيش أزمات العراق وفلسطين وغزة..؟
صراعات دامية وإحتلالات، كل شيء يتكسّر. إنهيار شامل على كل الأصعدة ومازلنا مصرّين على إستقبال ما نستقبله في الفضائيات العربية وما نقرأه في المجلات الفنية.

- كيف تقوّم القصيدة الوطنية أوالأغنية-المأساة التي يعلو صوتها موسمياً ؟
أؤمن بالقصيدة شاملةً لا أن تكون وطنية فقط. محمود درويش لم «يغنِّ» فقط للقضية وأعمالي تحدّثت عن الأنا والإنسان والحب، وأعمالي وليست محصورة في الوطن بل تناولت الحياة والطفل والمزاج والعمل. كل ما ألّفه الرحابنة موجود، ممن ننتظر عملاً مماثلاً؟ الأغنية الظرفية غير لازمة ودون جدوى. ماذا يعني دخول الفنان إلى الأستديو وغناء القصف على المدينة؟ لا يمكن محاكاة الحدث في قلب الحدث. يجب إنجاز عمل له بُعد فكري وله علاقة بالحياة والإنسان والخلق والتاثّر.

- قالت الفنانة جوليا بطرس في لقاء على إحدى الفضائيات العربية أنك إذا صعدت إلى المسرح، الجمهور سيتفاعل حتماً مع قديمك، ولكن إذا قدّمت جديداَ شبيهاً بالقديم، فهذا ليس مقبولاً اليوم لأن الإنسان برأيها تغيّر واعتاد المشهد. ما هو تعليقك؟
دائماً في عملي هناك إختراقات ولا أحب تقديم شيء والوقوف عنده. من «وعود من العاصفة» إلى «أحمد العربي» إلى «جدل» إلى «تقاسيم» إلى «الكونشرتو العربي»، دائماً كان هناك أعمال مختلفة لم أقدّمها في السابق. قد يقع الجمهور في الحيرة في البداية لأنه يتمسّك بما تعوّد عليه في كل الأعمال الفنية ولأن تقبّل الجديد يتطلّب وقتاً. لا مشكلة بيني وبين الجمهور، فهو يتعامل معي بحب حتى لو لم تعنِه في البداية قصيدة ما أو موسيقى ما. حين طرحت عمل «جدل» الموسيقي تساءل المستمع: «شو هالعمل وين ريتا؟» لكنه إعتاده لاحقاً وقدّمته في سبعين مدينة في أنحاء العالم. حتى مع «أحمد العربي» حصل الشيء نفسه حتى مع أسطوانتي الأولى. الجمهور يتمسّك بالذي يألفه ويعرفه. هذا شيء طبيعي. أستقبل الحب الكبير كما الغضب الكبير ولكن لا أعوّل لا على الحب ولا الغضب، أي أنني عندما أكتب عملاً أبوح بداخلي. إذا تلقاه المستمع فهذا جيّد ويضيف إلي، وغير ذلك سأشعر بالراحة لأنني أنجزت عملاً من حقي، فأنا لا أكتب للجمهور في البداية.

- لنتكلّم عن نجليك بشّار ورامي الذي أبى إخراج اللحن من مفاتيح البيانو بل من الوتر على خطى والده...
بشّار ورامي شابان موهوبان، صنعا إنجازاً بأعمالهما. الإثنان يعزفان على البيانو، بشّار درس في المعهد العالي للموسيقى في باريس ودرس آلات القرع الإيقاعية، ورامي درس في Juilliard School في نيويورك. الإثنان يتألقان كعازفين مبتدئين، هما إلى جانبي في جولاتي الموسيقية لأن إبداعهما يستحق ذلك.

- كيف كانت مشاعرك حين أهدى رامي إلى المدنيين الأبرياء في حرب تموز/يوليو ٢٠٠٦ عزفه لعمل «فوضى» الذي قدّمه على مسرح «بابل» في بيروت؟
أتعامل مع رامي كموسيقي وفنان حين يكون على المسرح. لا أستمع إليه كصلة قربى، حوار الأب وإبنه يدور لاحقاً. لكن حين يكون في صدد إنجاز عمل أتعامل معه بشكل مستقل ورأي وموقف. أنصحه كما أتحدث إلى شباب أوركسترا شباب فلسطين. رامي جريء جداًً وخاض تجربة إستثنائية وكان بإمكانه أن يصل إلى آذان المستمعين بأعمال أبسط ويصنع إسماً أكبر بكثير، لكنه أصرّ على سلوك درب جديدة ويغوص في أعماق البيانو وأن يُصدر من هذه الآلة أوركسترا حقيقية، إن كان بمفاتيحها البيضاء والسوداء أو أوتارها الداخلية أو حتى خشب البيانو.

- يريد ملامسة الأوتار تأثراً بوالده..
ممكن، لكني لم أكن يوماً الأب النصوح، لم أكن أعرف مسبقاً كيفية تربية الأبناء حتى رزقت بهم تعلّمت من التجربة. ولو لم ينعم رامي بالحرية لما سلك هذه التجربة، كذلك بشّار. علاقتي بهما تمدّني بنبض العصر وبكيفية فهمه والإقتراب منه والإستماع إلى هذا المختلف الذي لم أعشه.

- قلت إن رامي كان ليصير فناناً أكثر شهرة..
هو فنان كبير وكان بإستطاعته أن يختار طريقاًً أقصر لكنه أصرّ على أن يذهب في تجربة ليترك أثراً ما. وبرأيي أن يخترق جداراً هو أمر بالغ الأهمية.

- ماذا يعني لقب «فنان السلام» من منظمة الأمم المتحدة؟
هنالك حوالي ثمانين فناناً وأديباً وكاتباً وموسيقياً وشاعراً في العالم حصلوا على هذا اللقب من بعد تجارب قدموها في أعمالهم ومساهماتهم الإنسانية المنتشرة. نلت اللقب سنة ٢٠٠٥ وكنت الفنان العربي الأوّل والوحيد الذي نال هذا اللقب. الألقاب لا تضيف ولا تنقص.

- ما الذي يضيف؟
لا ينتظر عملي الجوائز، أنا حاضر. أجهد لتكون موسيقاي حاضرة وأقدّم عبرها رؤيا نظيفة في عالم متكسّر. أشكرهم على منحي هذا اللقب الإنساني إلى جانب الجائزة الموسيقية الأولى من أكاديمية شارل كرو في باريس عن عمل «تقاسيم»، وهي من أهم الأكاديميات. حصلت على تقدير علماً أنني قدّمت هذه الأسطوانة كما قدمت أسطوانات أخرى.

- هذا التقدير وجدته في الوطن؟
لا يهمني، لا أنتظر ولا أسعى وليس عندي هذا الهم. أعمل لأني أحب العطاء الفني دون إنتظار ال«برافو» أو ال«شكراً» ولأني أتقن ما أقوم به. ولا يهمني إذا أحب البعض عملي، لا يعنيني الأمر لأن جلّ همي البوح بما يعتريني في هذا المكان.

- ماذا يعني التلحين للشاعر الراحل محمود درويش الذي ينطوي اللحن بكلماته؟
علاقتي بدرويش حميمة للغاية، وعلاقتي بشعره كذلك. إعتبرت أنني أنا من كتب هذا الشعر، توحّدت معه كما يتوحّد الإنسان بالحب. ولهذا كل ما لحّنته لدرويش منتشر والكل حفظه عن ظهر قلب، حتى الإنسان الأمّي.

- توحّد صادق؟
ما من توحّد إذا لم يكن صادقاً. وإن لم يكن كذلك فهو ليس توحداً.

- هناك من يدعي التوحّد...
لا أتصوّر. الوصول إلى مرحلة التوحّد يحتاج إلى الكثير من العطاء.

- كيف كان اللقاء الأخير مع درويش؟
اللقاء ما قبل الأخير كان في قاعة الأونيسكو في باريس في إحتفال تكريمي لمحمود درويش مع صدور إسطوانتي «تقاسيم». قرأ محمود الشعر وقدّمت أنا عملي الجديد (عود وكونترباص وإيقاع)، هذه آخر أمسية مع محمود قبل سنة من رحيله. أما اللقاء الأخير، فلم يكن فنياً كان في باريس أيضاً حين فاجأني محمود بإتصاله وقال لي أنه في فرنسا وخرجنا لتناول العشاء. وفي الحقيقة، كنت قد حزت جائزة فلسطين من وزارة الثقافة الفلسطينية عام ١٩٩٩ وهو تسلّمها عني وهي عبارة عن مجسّم لأنني لا أستطيع الذهاب إلى رام الله، وحوّلنا القيمة المادية إلى معهد «إدوارد سعيد». كل مرة كنت ألقاه كان يقول: «بدي جبلك هالمجسم بعدو في عمان». أعطاني المجسم في هذه الجلسة قبل أربعة أشهر من رحيله. ثم تكلمنا على الهاتف وكان من المفروض أن يحضر معي حفلة في ولاية نيوجيرسي الأميركية يعود ريعها لبناء مستوصف في رام الله  لكنه كان متعباً وفي مرحلة قلّل من نشاطاته لأنه لم يكن يستطيع التنقل كثيراًً.

- لمَ قال لك يوماً أن قصيدة «يطير الحمام» (التي أديتها أخيراًً) شخصية حين نويت تلحينها؟
عندما كتب هذه القصيدة أسمعني إياها في منزله في بيروت، وأحتفظ بتسجيل بصوته وهو يقرأها.  لم أطلب من محمود يوماًً تلحين هذه القصيدة أو تلك بل كان ينصحني بقصيدة معينة أكثر من غيرها. قال لي أن «يطير الحمام»  قصيدة جريئة جداً وشخصية جداً ولم يكن لديه رغبة في أن ألحنها. ولكن بعد فترة ألح على تلحينها وبات يسألني: «وين صارت القصيدة؟» كعمل ملحّن. للأسف ذهب قبل أن يسمعها. لحّنت القصيدة كلّها وليس فقط المقطع الذي أؤديه على المسرح. هو عمل متكامل مدته ساعة من الحوار بين إمرأة ورجل. «يطير الحمام» تختلف عن «أحمد العربي» القضية والحالة العامة  فهي تروي العلاقة مع الآخر وكيف أناجيه. «يطير الحمام» قريبة مني أكثر من «أحمد العربي» بالمعنى الشخصي والمنطقي. أحب هذه القصيدة كثيراًً لأنها شديدة العمق وشفافة، فيها كمية كبيرة من الحب الإستثنائي. سأغنيها بكاملها يوماً.

- مقبول؟
منعت في كل مكان.

- الموسيقى«عين الأذن» بتعبيرك الخاص، كيف تنظر إلى الفن العربي اليوم؟
فنانو الكليبات لا أسمعهم. لكن هناك فنانين حقيقيين في كل الوطن العربي ورامي أحدهم.

- هل من صوت يطربك؟
لا تهمني الأصوات كثيراً بل الإنسان. الصوت لا يهمني بل طاقته في أن يحمل كمية من العطاء المختلف بعيداًً عن النمطي والسائد. العصافير هم أعظم موسيقيين على هذا الكوكب، تعلّمت منهم الكثير.

- قدّم الفنان العراقي كاظم الساهر حفلاً بعد أمسيتك في «بيت الدين»، هل تطرب لقصائد نزار قباني بصوته ومن ألحانه؟
البعض يملك صوتاً جميلاً لكن العمل مع القصيدة العربية الحديثة يحتاج إلى معطيات أكثر. يجب أن يرحل كاظم الساهر إلى أماكن أبعد. ما يقدّمه سبق أن قدمه الفنان الراحل عبد الحليم حافظ. يجب أن نقدّم معنى جديداً للنص وألاّ نذهب مع الجمهور بل ندعوه كي يذهب معنا. كذلك الأمر بالنسبة إلى وردة الجزائرية التي سمعتها مع أم كلثوم.

- ماذا تعني العودة إلى قريتك عمشيت أخيراًً قبل إستئناف حياتك-الجولة؟
عودة إلى الصفاء. طبعاًً هناك الكثير من التغيير لكن بقي الألق الذي فيها، جمال الطبيعة والبيوت القديمة الجميلة. لقد حرمت من القدوم إلى عمشيت ثمانية عشر عاماًً في الحرب، لكنها تبقى مكاني الأوّل.

- أتكتب الحروف إلى جانب النوتات؟
لدي همّ الكتابة، ولا أكتفي بكتابة الموسيقى، وسيأتي يوم أنشر فيه ما أكتبه عن هذه الحياة. لم ألحن لنفسي أبداً لكني أكتب كل يوم، كتابات نثرية وقصائد.

- تفكر في تلحين نص غير عربي؟
لا، موسيقاي نابعة من ذاكرة محلية.

- تؤمن أن أجمل أفكارك لم تكتب بعد؟
طبعاً، أبحث دائماً وأنا دائم القلق وأبحث عن مجهول لم ألتقطه  كوردة على شفير هوّة لم أمسكها، أسعى إليها حتى لو أوشكت على الإنزلاق.

- هل يمكن أن تجتمع ألحانك بصوت جديد؟
لا أحمل همّ الصوت بل هم الموسيقى والإبداع.

- هل يمكن أن تقول للقضية لقد هرمت؟
الحلم يبقى حلماًً ولا يموت فهو يصنع الحياة. علينا أن نحلم وأن نخترع هذا الحلم وإلاّ تصبح الحياة كارثة، لا حب ولا شعر ولا موسيقى ولا رواية ولا شعلة. ولا علاقة للعمر بالموضوع، «ممكن تشوفي شاب عمرو ثمانين عاماًً».

- أخيراً، إلى ما يرمز الشال؟
لا شيء، في الحقيقة كنت أضعه عندما أقدم حفلة في الهواء الطلق في البرد القارس في الولايات المتحدة الأميركية، ولكي أستطيع الغناء في اليوم التالي. وقد أصبح وضعه نوعاً من التقليد لاحقاً فأنا لا أضع ربطة العنق. لا يحمل الشال ولا ألوانه أي رمزية محدّدة.

مارسيل خليفة يوجّه كلمة إلى محمود درويش

«أيها الكائن الخرافي الساحر ، هناك من يحدث الناس حوله عنك وكأنه يروي لهم شيئاً من حكايا جدّته عن الغريب ذي الثياب البيضاء، الذي يمسح على وجوه الصغار قبل أن يستيقظوا صبيحة العيد، يقومون جميلين وفرحين ذاك اليوم أكثر من الأيام، بالتأكيد، هكذا فعلت أنت ليلتها، لقد مسحت على وجهي، وأريد أن أخبرك أني إستيقظت أجمل، يا ناسك الشمس نحن ناسُك المنذورون لشعرك».

 

المجلة الالكترونية

العدد 1075  |  حزيران 2024

المجلة الالكترونية العدد 1075