أوروبا في قبضة فيروس كورونا... وفرنسا في وضع صحي مأساوي
"الأمور تتجه نحو الأسوأ"، الجملة الأكثر تداولاً بين المواطنين والمقيمين في فرنسا بعد سؤالهم عن الأوضاع الصحية في ظل الانتشار السريع لفيروس كورونا المستجدّ (كوفيد- 19) في أوروبا، وتسبّبه في وفاة المئات خلال شهر واحد. وتعاني الدول الأوروبية، وفي مقدّمها إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، من كارثة صحية حقيقية لا يمكن وصفها إلا بالمأسوية بعد تحوّل هذه الدول إلى بؤرة للوباء خلال فترة قصيرة جداً، ما أدى إلى إصابة الآلاف من سكانها بالفيروس المميت وارتفاع عدد الوفيات فيها بشكل جنوني، حيث تصدّرت إيطاليا قائمة الدول الأكثر تسجيلاً للوفيات في العالم، وسجّلت في الأيام الأخيرة أكثر من 7000 حالة، بينما تخطّى عدد الإصابات فيها حاجز الـ70 ألفاً.
تسونامي بشري في مستشفيات أوروبا
تواجه المستشفيات الأوروبية "تسونامي" بشرياً حقيقياً مع استمرار تدفق المصابين بفيروس كورونا عليها بأعداد هائلة، ما كشف عن عجزٍ كبير لدى الأطقم الصحية في احتواء تلك الأزمة المفاجئة للسلطات، والتي شكلت صفعة كبيرة للإمكانات الطبية التي لطالما تغنّت بها أغلب تلك الدول على مدار السنين. ففي فرنسا تحدّث رئيسها إيمانويل ماكرون في خطاب للأمة في الأسبوع الأول من انتشار الوباء الخطير عن "أسوأ أزمة صحية تشهدها فرنسا منذ قرن"، وحذّر من أن بلاده تسير نحو وباء "لا يرحم". كما أعلن عن نقص في الأقنعة الطبّية والمعقّمات وبعض الأدوية المسكّنة. وطلب تأمين هذه المستلزمات الضرورية للحدّ من انتشار الفيروس للمصابين والأطقم الطبية في الدرجة الأولى، لافتاً إلى أنها غير مهمة بالنسبة الى الأشخاص السليمين، الأمر الذي نفته منظمة الصحة العالمية، التي حضّت كل المضطرين للخروج من منازلهم على ارتداء الكمّامات الطبية كإجراء احترازي رغم أن لا دليل علمياً حتى الآن على انتقال فيروس كورونا عبر الهواء.
كذب الدولة الفرنسية وعجزها
شكّل نقص الأقنعة الواقية فضيحة غير مسبوقة في تاريخ الدولة الفرنسية، دفعت الأطبّاء فيليب نكاش وإيمانويل سارازين ولودوفيك تورو إلى تشكيل مجموعة "سي 19" التي تضم أكثر من 600 طبيب وممرض، وسارعوا إلى تقديم دعوى قضائية أمام محكمة العدل الفرنسية ضد رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب ووزيرة الصحة السابقة أنياس بوزان بسبب ما سمّوه "كذب وعجز الدولة" في معالجة فيروس كورونا في مختلف مقاطعات الدولة.
وتتّهم مجموعة "سي 19" فيليب وبوزان بعدم اتّخاذ التدابير اللازمة لمنع وصول الوباء إلى فرنسا على الرغم من معرفتهما المُسبقة بمخاطره بعد ظهوره للمرة الأولى في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي في مدينة ووهان الصينية وانتشاره في ما بعد في أغلب دول العالم، وبالتالي عدم إسراعهما في وقف الرحلات الجوية والبرية والبحرية بين الدول وإعلان حالة الطوارئ في البلاد.
إجراءات بطيئة وانتشار سريع للوباء
ترى غالبية المواطنين والمقيمين في فرنسا أن الحكومة تأخرت كثيراً في اتّخاذ الإجراءات الحاسمة للحدّ من انتشار الوباء لناحية وقف الرحلات الجوية وإغلاق المحال التجارية وتعطيل حركة النقل العام التي لم تتوقف حتى الآن. إضافة إلى تأخر الحكومة في إعلان حالة الطوارئ وإجبار المواطنين على الحجر المنزلي على غرار ما فعلت الصين. وبالفعل، لم تتحرك السلطات الفرنسية كما يجب منذ الإعلان عن انتشار الفيروس في أوروبا واعتباره وباءً عالمياً، إذ كان ينبغي على الحكومة عزل المقاطعات عن بعضها بعضاً، وإغلاق الحدود ومنع التنقّل بين الدول الأوروبية، وكذلك بناء مخزون وقائي من أقنعة، وأثواب طبّية، ونظّارات، وقفّازات، ومعقّمات، وأيضاً شراء ما يلزم من الأدوات المختبرية للإسراع في الكشف عن الإصابات، حيث تعجز المستشفيات الفرنسية حالياً عن إجراء أكثر من 2500 فحص في اليوم الواحد، وفي المقابل تجري ألمانيا أكثر من 15 ألفاً في اليوم الواحد، وهي لذلك تصنَّف من أولى الدول الأوروبية التي نجحت في احتواء الفيروس رغم ارتفاع عدد الإصابات فيها.
مستشفيات باريس... عجز تام
ورغم كل المحاولات والجهود المبذولة لاحتواء الأزمة في البلاد، تعاني مستشفيات العاصمة باريس وما حولها عجزاً كلياً في استقبال أعداد كبيرة من المصابين. ويجتهد المسؤولون لإيجاد مزيد من أسرّة العناية المركّزة وأجهزة التنفس الاصطناعي وأطقم الرعاية الطبية، الأمر الذي دفعهم إلى اتّخاذ أخطر قرار في الوقت الراهن بنقل عددٍ كبير من المرضى بطائرات الهليكوبتر من شمال وشرق فرنسا إلى مستشفيات الجنوب في مارسيليا وتولون التي كانت الأعداد فيها محصورة، ما أدى إلى ارتفاع عدد الاصابات فيها بسرعة. كذلك اضطرت السلطات الفرنسية إلى نقل الكثير من المرضى إلى سويسرا وألمانيا لتلقّي العلاج بعدما باتت المستشفيات تكتظ بما يفوق طاقتها، وبدا الأطباء عاجزين عن تلبية نداء الواجب بشكل كامل، وتم ذلك بمساعدة الجيش الذي حرص على نقل ذوي الحالات الخطرة إلى مستشفيات تحتوي على أسرّة وأجهزة تنفّس كافية في محاولة لإنقاذهم.
فرز للمصابين وعناية انتقائية
يعتبر المسنّون الأكثر عرضةً للإصابة بفيروس كورونا المستجدّ بسبب بنيتهم الجسدية الضعيفة ونقص مناعتهم، ما دفع بالمستشفيات الإيطالية في الفترة الأخيرة إلى فرز المصابين بالعدوى، وتقديم العناية الطبية بشكل انتقائي لمن هم دون سنّ السبعين، وهناك أمل في شفائهم. وهو ما بدأت فعلاً بعض المستشفيات الفرنسية في تطبيقه بما يتوافق مع مواد قانون Leonetti الصادر في العام 2005 والمتعلّق بإبقاء المريض الذي يختاره الطبيب المعالج على قيد الحياة. وتعود أسباب اعتماد هذا العلاج الانتقائي إلى تجاوز عدد الحالات القدرة الاستيعابية للمستشفيات والإمكانيات المتاحة لديها، الأمر الذي أدى إلى وفاة المئات من المتقدّمين في السنّ في القارة العجوز.
وفي حادثة مأسوية إضافية، أعلنت وكالة الصحة الإقليمية في محافظة Vosges الفرنسية عن وفاة 20 شخصاً من المقيمين في دار لرعاية المسنّين، مرجّحين أن يكون السبب إصابتهم بالفيروس المميت رغم إجراءات السلامة المتّخذة داخل تلك الدار كمنع الزيارات وتعقيم كل الأقسام.
وكانت وزارة الدفاع الإسبانية قد أعلنت عن خبر مشابه، بالعثور على مسنّين موتى على أسرّتهم في دور لرعاية المسنّين في البلاد بعدما تُركوا بدون اهتمام لانشغال الممرضين والأطباء بمرضى كورونا.
دواء غير مرحَّب به عالمياً
ورغم الجدل القائم حول استخدام بعض الأدوية لعلاج المصابين بفيروس كورونا، فإن يأس بعض الأطباء الفرنسيين والطاقم الطبّي دفع بالسلطات الى إصدار ترخيص باستخدام عقار hydroxychloroquine الذي أحدث ضجة كبيرة في العالم بعدما حظّرت دول كثيرة استخدامه. وبالفعل بدأ الأطباء في فرنسا باستخدام هذا الدواء، ولكن ضمن شروط مشدّدة في طريقة استخدامه، حيث يتم ذلك ضمن أُطر ضيقة جداً لعلاج حالات محدّدة وبقرار من الأطباء حسب حالة المريض الصحية لمنع حصول أي مضاعفات جانبية.
وأكد الطبيب الفرنسي ديدييه راؤول، مدير المعهد الاستشفائي الجامعي في مارسيليا، أن التجارب السريرية التي أُجريت على بعض المصابين أثبتت فعالية الدواء، لافتاً إلى أن العقار مركّب من "هيدروكسي كلوروكين" و"الأزيثروميسين"، وأظهرت أعمال أربع فرق أنه فعّال في مواجهة تكاثر أربعة أنواع من فيروسات كورونا في الخلايا.
من جهة ثانية، أعلنت شركة فرنسية في 17 آذار/مارس، عن فعالية دواء "بلاكنيل''، وأن نتائجه إيجابية في علاج المصابين، وتعهّدت بتقديم ملايين الجرعات لإنقاذ حياة أكثر من 300 ألف مريض. والـ"بلاكنيل" عقار مكوّن من جزيئات "هيدروكسي كلوروكين" أيضاً، ويُستخدم منذ عقود في معالجة الملاريا وأمراض المناعة الذاتية، مثل داء الذئبة والتهاب المفاصل، إلاّ أنه لم يصدر أي تعميم باستخدامه.
وفي بارقة أمل جديدة، أعلن مدير الفرع الأوروبي في منظمة الصحة العالمية عن وجود "مؤشرات مشجعة" على تباطؤ تفشّي فيروس كورونا في أوروبا رغم خطورة الوضع الحالي، لافتاً إلى أن إيطاليا، التي تسجل أكبر عدد من الإصابات، بدأت تشهد انخفاضاً بطيئاً في عدد المصابين وتراجعاً ضئيلاً في أعداد الوفيات.
الكورونا... موت بلا وداع وحرق للجثث
ومع تفشّي الوباء القاتل، حظّرت مختلف دول العالم الزيارات والتجمعات، بما فيها إقامة الحفلات والأعراس، وأيضاً مراسم الدفن. وبسبب هذا القرار حُرم أهالي الضحايا من إلقاء نظرة أخيرة على أحبّائهم وأقاربهم، ومنعوا من وداعهم الأخير. وفي المحصّلة يمكن تصنيف هذا الوباء العالمي الفتّاك بأنه يقتل الإنسان مرتين. في المرة الأولى يعزله عن أحبّائه، وفي الثانية يحرمه من مراسم الدفن وإقامة الشعائر الدينية الواجبة للموتى خوفاً على المعزّين من انتقال العدوى بالفيروس إليهم.
وفي إجراء غير مسبوق، ولعدم وجود مساحة آمنة لدفن الموتى، لجأت السلطات الإيطالية إلى الاستعانة بالحافلات العسكرية لنقل توابيت ضحايا فيروس (كوفيد- 19) من مدينة بيرغامو، شمال البلاد، إلى مدن إيطالية أخرى حتى يتسنّى لها حرق الجثث، في مشهد مأسوي لم تعشه إيطاليا المنكوبة حالياً منذ مدة طويلة.
ما هو قانون Claeys-Leonetti؟
أقرّ المجلس الدستوري الفرنسي في العام 2005 قانوناً استثنائياً تحت عنوان "الحق في الحياة"، والذي بموجبه يُمنح الطبيب المعالِج السلطة بأن يقرر بمفرده مصير المريض بعد إجراء استشارات جماعية. ويهدف هذا القانون إلى "رفض العِناد غير المقبول" ومنع العلاج عن المريض الميؤوس من حالته، والذي لم يترك وصايا مسبقة. وقرار الطبيب يجب أن يكون خاضعاً لإشراف قاضٍ.
وقانون Claeys-Leonetti المعمول به في المستشفيات الفرنسية حالياً، يجيز للأطباء وقف العلاج عن أي مصاب بالكورونا بعد التأكد من أنه لم يعد يستجيب لأي علاج، أو لا أمل في علاجه بعدما تصبح مؤشرات بقائه على قيد الحياة ضعيفة جداً.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024