تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

منصور الرحباني في أفكار قدمها قبل زمن ولم يمرّ عليها الزمن

 

عرفتُه شاعراً وكاتباً يحيك المشاعر الأكثر تعقيداً بكلمات بسيطة، مفكّراً حكيماً منحنياً على الآلام الإنسانية والأسئلة الوجودية، مؤلّفاً موسيقياً معطاء، متواضعاً يرفض الألقاب، مقاوماً للمرض بالعمل والإيمان والصبر والأدوية، متغلّباً على خوفه من غموض الموت بالسير الى قدره بشجاعة أبطال الأساطير اليونانية، وحالماً، حالماً حتى النفس الأخير. أستعيدُ منصور الرحباني في حوار أجريتُه معه وقد مضى عليه زمن. لكنّ العمالقة لا يعترفون بزمن. كلماتهم، أفكارهم، أعمالهم خالدة أبداً

 

 

جمعنا اللقاء في منزله في انطلياس، شمال بيروت، في صالون عجّ بمحتوياته: مجموعة صور تحثّ على الذكريات وبيانو كبير ومرتفعات من الأوراق والكتب والمجلّدات. الرحباني الكبير في كرسيه الوثير يخرج من جيبه عدداً غير قليل من حبوب الأدوية، ويبتلعه دفعة واحدة مع كأس ماء. فأعلّق ممازحة: «كثير هذا يا أستاذ!»، ويجيب مبتسماً: «إيه شو بدنا نعمل!». أبادله الإبتسامة ويكرّ الحديث.

-  قال سقراط: «أيها الإنسان إعرف نفسك»، فهل يعرف منصور الرحباني نفسه؟ 

لقد أدرك سقراط باكراً أهمية البحث عن الذات ومعرفة قدراتها فأطلق فلسفته الشهيرة «أيها الإنسان إعرف نفسك»، في محاولة لحثّ الإنسان على معرفة ذاته بدلاً من الغور في أسرار الكون والماورائيات. وأعتقد أن كل ّ التطوّرات العلمية والإختراعات الكبيرة التي حصلت منذ أيام سقراط وحتى يومنا هذا هي حصيلة هذه الحكمة.

 

ومن هو منصور الرحباني؟

منصور الرحباني لا يختلف عن الآخرين. إنسان مثل كلّ الناس. تفتّحتُ باكراً جداً على الحياة وسط تناقض غريب: والدي قبضاي يتمتّع بقوّة جسدية بارزة، وفي الوقت نفسه حسّاس مرهفٌ ويعشق الموسيقى على أنواعها، رغم معارضته الكبيرة لامتهاننا الفن. كان والدي يملك مطعم «فوار انطلياس» حيث كنا نمضي أوقاتاً طويلة في سماع الموسيقى. كذلك كانت جدتي لأمي تعشق الزجل وترتجله في المناسبات المختلفة. من هنا بدأتُ محاولاتي الشعرية باكراً جداً. وكان «شي يظبط وشي ما يظبط»، (يضحك). ثم تعلّمت وعاصي الموسيقى وقدّمنا أعمالنا الفنية الأولى في نادي انطلياس وقد لاقت نجاحاً كبيراً، ومنه كانت إنطلاقتنا التي وُصفت بالثورية، خصوصاً أنها كسرت القاعدة السائدة آنذاك، وجاءت بأغنية مدّتها ثلاث دقائق، مفعمة بالمفردات الجبلية كالوعر والشوك والصخر، يوم كانت أقصر أغنية عربية تستغرق نصف ساعة وتعتمد على المفردات المترفة كالبنفسج والياسمين والعواذل الخ... فواجهتنا مشكلة إمتناع المطربين آنذاك عن إنشاد أغنياتنا، لكنّ إعجاب الجمهور الكبير بما قدّمناه أمّن انطلاقتنا. أعتقد أننا نجحنا لأننا قدّمنا موسيقى تحمل هويّتنا اللبنانية قبل أي شيء آخر، وهو ما جعل منها موسيقى عالمية بامتياز. فالكاتب الروسي تولوستوي لم يصبح كاتباً عالمياً إلا عندما كتب عن عذاب الفلاّح الروسي ومشاعره التي تشبه مشاعر كل فلاّحي العالم، أي أنه انطلق من المحدود ليصل إلى اللامحدود.

 

أيّ رسالة حمّلك الفن؟

لقد أدركتُ باكراً تعاسة الإنسان وغياب الحريّة، ليس فقط في أنظمة العالم الثالث حيث القمع والفقر والجوع والمرض أعداء الإنسان، بل كذلك في أنظمة العالم الحضاري حيث بات الإنسان عبداً للآلة، تتحكّم في حياته التكنولوجيا. رسالتي الفنية هي رسالة الإنسان والحريّة، تهدف إلى مصالحة الإنسان مع محيطه أولاً، ومع الوجود ثانياً. 

 

هل استطاع منصور الرحباني أن يُحقّق كل أحلامه؟ وهل مازلت تحلم؟

الحلم هو الصورة الفجرية للحقيقة. إنه الحقيقة الآتية. وموت الأحلام يعني السقوط في العدم والعجز والخروج من الحياة. أحلامٌ كثيرة تتحقّق وأخرى تسقط في الطريق، رغم ذلك علينا أن نواصل الحلم حتى آخر لحظة من حياتنا... أنا أحلم، إذاً أنا موجود. حلمي هو الهواء الذي أتنشّقه وهو الوقود الذي يحرّكني لمتابعة رسالتي الفنية حتى النهاية. البعض ينادي بالقناعة درباً يقود إلى السعادة، أما أنا فأنادي بالحلم شعاراً ودستوراً وديناً.

 

من يشغفه صوت الماضي، لا يستطيع مخاطبة المستقبل. ما هو الماضي بالنسبة إليك؟

الماضي هو أيام عشتها بكل معطياتها السعيدة والحزينة. لكنني لا أحب أن أتذكّر منه إلا اللحظات الحلوة، فالذكريات الجميلة هي قناديل معلّقة تضيء ليل هذا العالم. أحنّ إلى الماضي، لكنني أكثر تعلّقاً بالحاضر. ولو خيّرت بين الحاضر والعودة إلى الماضي، لاخترت الحاضر لأن علاقتي به أقوى من أيّ علاقة أخرى، وهو عتبة الغد، رغم معرفتي بأن النهاية، نهاية كلّ منا، مأساوية، تنتهي بموت. أعتقد أن عظمة الإنسان تكمن بأنه يمشي إلى قدره بخطوات ثابتة، رغم معرفته المسبقة بأنه سينتهي مسحوقاً شأنه شأن أبطال الأساطير اليونانية.

 

هل هذا يعني أن كل خطوة في الحياة هي خطوة نحو الموت؟ وما هو الموت في قاموسك؟

في حياة الإنسان حقيقتان: هما الولادة والموت، وكل ما بينهما ليس سوى مرحلة انتظار. ونحن نحاول أن نخفّف من ثقل هذا الإنتظار متناسين الفاجعة التي تنتظرنا، فنتعلّم ونعمل ونُبدع ونتزوّج ونحارب ونهادن... كي يمرّ الوقت خفيفاً. هذه حقيقة الإنسان كما تبدو لناظريها، لكن الإيمان بالله يؤكّد لنا أن في الموت حياة جديدة نجهلها.

 

هل تخافُ الموت؟

أخافه لأنني أجهله. لقد كانت لي قراءات كثيرة في هذا المجال بعضها يؤكّد أن النفس تخلد متجرّدة من ماضيها، والبعض الآخر يقول بخلود النفس مع احتفاظها بكلّ حياتها الماضية. والواقع أن هذا السؤال يُقلقني: «هل نلتقي بعد موتنا أحباءنا الذين عشنا معهم وسبقونا إلى رحيلهم؟».

 

بالعودة إلى شريط ذكرياتك، ما هو أبرز مشهد فيه؟ 

(يبتسم)، لن أتذكّر... 

 

هل تكره الذكريات، هل تخافها؟

سبق أن قلت إنني أحيا في الحاضر. أحمل كل أوجاع الماضي وأحزانه في حقيبة صغيرة وأسير في طريقي، كمن يسافر لتمضية عطلة سعيدة، تاركاً كل شيء مضى وراءه. لذا ترينني لا أفتح حقيبتي لأتذكّر. تمرّ بي أحياناً بعض ذكريات سريعة، كغيمة صيفية، وتختفي. هناك أشخاص دائمو الحضور في قلبي مثل عاصي... فعاصي حاضر دائماً في حياتي. 

 

 

تعيش والمرض، كيف تُقاومه؟

أُقاوم المرض بإرادة قويّة وإيمان كبير وصبر على الأوجاع، إضافة إلى الأدوية على أنواعها، ونظام غذائي خاص أتّبعه. أنا إنسان مؤمن جداً رغم الشكوك التي تُساورني أحياناً، لكن شكوكي هذه هي طريقي إلى الإيمان المبنيّ على صخرة. حتى النسّاك والقدّيسون يقعون أحياناً في الشكّ.

 

في أيّ مناخ ينتج منصور الرحباني؟

لا أشترط مناخاً أو مكاناً أو زماناً معيّناً كي أنتج. المهمّ أن يكون ذهني صافياً وقادراً على العطاء. لم يكن عاصي من المؤمنين بنظرية الوحي الفنيّ، بل كان يشترط توافر الموهبة والثقافة والتقنية لولادة العمل الموسيقي أو الشعريّ. بعض الأعمال تأتي خارقة، وبعضها الآخر عاديّ، المهمّ أن يحافظ المرء في كل إنتاجاته على مستوى معيّن.

 

يقول أنور السادات: «قد نعترف بهفواتنا الصغيرة كي نوهم الناس بأنه ليس لدينا أخطاء كبيرة». ماذا عن هفوات منصور الرحباني وأخطائه؟

(يضحك)، حياتي كلها عبارة عن مجموعة من الهفوات. ما من إنسان معصوم عن الخطأ! الحمد لله أنني لم أعرف يوماً البغض أو الحقد... عنيدٌ؟ ربما. فالعناد من تراث الرحابنة، وهو عنادٌ ينتهي عندما يكتشف الرحباني خطأه فيصلحه. 

 

يقول البعض أننا نعرف قيمة الثروة عندما نمتلكها، وقيمة الصديق عندما نفقده. وأنت ماذا تقول؟

عندما نمتلك الثروة نصبح حريصين عليها أكثر، وكأننا حرّاس لشيء لا نملكه. وقد توارثنا القول «إن القرش الأبيض هو لليوم الأسود». أما أنا فأقول: «إن مالنا لا يصبح ملكنا، إلا عندما نصرفه بلذّة وفرح». أما بالنسبة إلى الأصدقاء، فأنا لا أُوافق القول أننا نعرف قيمتهم عندما نفقدهم. فنحن نحيا في ظلّ صداقتهم كمن يحيا في ظلّ أرزة أو سنديانة، ونعتقد أنهم لن يرحلوا أبداً، وفجأة يصدمنا خبر موتهم فيصيبنا بالخيبة والإحباط. أصدقائي أحرص عليهم كحرصي على نفسي، وتربطني بهم علاقة مجرّدة من كل مصلحة، فالصداقة لا تطلب من الآخر إلا الصداقة، وهي لا تنشد إلا نفسها، علماً أن كل العواطف الأخرى تنطلق من الأنا واللذّة الشخصية.

 

قيل حيث كنزك يكون قلبك. أين هو كنز منصور الرحباني، وقلبه؟

كنزي موزّع في هذه الأرض. أما قلبي فهو موزّع على أصدقائي وأحبّائي. 

 

هل يشيخ الحب مع العمر أم أنه لا يعترف بالشيخوخة؟

صحيح أننا أسرى هذا الهيكل الترابيّ، لكن الحبّ لا يعترف بعمرٍ، لا بل يصبح أكثر توهّجاً مع الوقت. 

 

ما رأيك في الأغنية اللبنانية الحديثة؟

في الغالب هي دون المستوى. طبعاً هناك استثناءات جميلة وهذه الاستثناءات هي القاعدة اليوم، بعدما غابت الحركة الفنية الرسولية في الوسط الفني والتي كانت مهمّتها البحث عن الإبداع وحمايته وتثقيف الإنسان. الفن والفكر اليوم إلى تقهقر ويبدو لي مستقبل الثقافة مدخل القرن الحادي والعشرين، سحابة سوداء مظلمة تجعل من الإنسان عبداً للمعرفة ذاتها.

 

وكيف ترى مستقبل الأغنية اللبنانية؟

سيجدُ الفن طريقه المستقيم عاجلاً أم آجلاً. ففي كلّ العصور كان هناك الجيد والرديء، الخالد والفاني.-

 

 

أنا الغريب الآخر
أُسافر وحدي ملكاً



حينَ رنينُ الساعهْ
سأموتُ الليلةَ عن بيروتَ
يُعلنُ أنَّ بعضَ ما نحنُ
سأُصْلَبُ في الحمراءْ
يموتُ نصفَ الليلْ
ليكونَ للبنان رجاءٌ
وتُطفَأُ الانوارُ
وحياةٌ للشهداءْ
نصفَ الليلْ
يا شعبي...
وتُطْفأُ الوجوهُ
متَّحِدٌ بالمجد أنا
والاسماءْ...
متَّحِدٌ بأوجاعِ الفقراءْ
حينَ صراخُ السفنِ السوداءْ
ويداك صليبيَ
في الميناءْ
تنبسطانِ
يُعن أنه سنةً
من الجولانِ
تساقطتْ
الى سيناءْ.
وغرقتْ في الماءْ
...
وأن عاماً آخراً
يا بيروتُ المتأنقةُ
يأتي من الميناءْ
على باب الصحراءْ
تَذكَّريني...
شمسُ المشرق أنتِ
يا امرأةً غريبةً، الاَّ معي غريبةً
ثلجٌ
يا امرأةً...
وحضاراتٌ عبرتْ
تسهرُ في عَيْنَيّْ
وحطام نبوءات أنتِ...
وفي مكانٍ آخرْ
بعطايا البلدانْ
تَذكَّريني...
يأتي البحر اليكِ،
أنا...
وتجارتكِ الغيبُ
الغريبُ الآخرْ.
وبالاسمنتِ علوتِ...


حين تعاظم فيك المالُ


وَقَعْتِ


لا أسوارَ


ولا أبوابَ


سجدنا...


قبَّلناه ترابكِ ثمَّ دخلنا


من أبواب الله دخلنا


من باب الحريةِ


والحريةُ بابُ اللهْ


مَعَنا


دخلتْ


كُلُّ شعوبِ اللهْ.

 

 

 منصور الرحباني... وداعاً

بعد صراع طويل مع المرض، رحل الفنان القدير منصور الرحباني صباح اليوم الثالث عشر من كانون الثاني/يناير الجاري، لتسدل الستارة على واحدة من أبرز مراحل الأغنية اللبنانية، التي كان الراحل واحداً من ركائزها، إلى جانب شقيقه المبدع الكبير الراحل عاصي الرحباني وزكي ناصيف وفيلمون وهبي، وغيرهم من الذين نشروا الأغنية اللبنانية حول العالم، وطبعاً «فيروز» (أمدّ الله في عمرها) حتى صارت هذه المرحلة تراثاً تتناقله الأجيال....

قدم الراحل أعمالاً مهمة من أغنيات ومسرحيات غنائية تحت اسم «الأخوين رحباني» كانت فيروز بطلتها المطلقة، وكانت أيضاً الأكثر شهرة وقوة وحضوراً بعد أن قدمت هذه الأعمال على أشهر المسارح وأهمها مهرجانات «بعلبك الدولية» في الستينات وأوائل سبعينات القرن الماضي، أيام العصر الذهبي للفن اللبناني. ومن هذه المسرحيات: «لولو»، «بترا»، «هالة والملك» وغيرها.

بعد وفاة شقيقه الراحل الكبير عاصي عام 1986، استمرّ منصور في تقديم المسرحيات الغنائية التي ارتكزت على معالجة الواقع السياسي في لبنان، وأطلق نجوماً جدداً في المسرح الغنائي اللبناني، منهم غسان صليبا، هدى حداد (شقيقة فيروز) وكارول سماحة. ومن أشهر هذه الأعمال: «صيف 840» مع غسان صليبا وهدى حداد عام 1987، «الوصية» مع غسان صليبا وهدى حداد وكارول سماحة عام 1994. وقدم في عام 1998 مسرحية «آخر أيام سقراط» مع كارول سماحة. ثم توالت الأعمال عاماً بعد آخر حيث قدم منصور «المتنبي»، «زنوبيا»، «آخر يوم»، «وقام في اليوم الثالث»، «النبي»، «ملوك الطوائف»، و«حكم الرعيان» التي شاركت فيها المطربة التونسية لطيفة للمرة الأولى. ومن آخر أعماله مسرحية «عودة الفينيق» التي بوشر بعرضها منذ حوالي شهر، من بطولة غسان صليبا وهبة طوحى.

 

 

 

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079