الفنان المعماري عبدالرحمن عيد: جدّة خاطبتني بحنين إنساني وإرثٍ تاريخي
للمدن سحرها ورونقها، عبقها وإرثها التاريخي، كلما كَبُرت تجلّى حسنها، وأصبحت مهوى الأفئدة، وقد شغف الزائرون والمعتمرون والحجّاج بفجرها وضوئها وبحرها، أما الفنانون والمعماريون والعاشقون للتراث فشدّهم عبق تلك المدينة الرابضة على البحر الأحمر، وحكايات العشّاق وراءه، حين تغيب الشمس، يرسل القمر نوره ليضيء الأرواح، ويحيي الحبَّ في القلوب. الفنان التشكيلي والهاوي عبدالرحمن عيد أبهره إرث جدّة الحجازي وبناؤها التاريخي فتعلّقت عيناه بمبانيها، وعاد بالذاكرة إلى حنين دمشقي يعانق ذاك الجمال الحجازي... التقته "لها" لتُمتِّع ناظريها بجمال تصاميمه التي نقلت الواقع كما هو.
- ما كل هذا العشق لعبق الماضي والحنين الى مفرداته؟
دخلت المملكة العربية السعودية في عام 2001، وتنقّلت بين مدنها المختلفة، لكن منذ زيارتي الأولى والخاطفة لمدينة جدّة التاريخية شدّتني بروحها، وسحرتني بعبقها التاريخي، وأنا الغريب عنها، فتعلّق نظري ببيت قديم، ودفعني الفضول الإنساني لأركن سيارتي جانباً وأتجوّل في شوارع المدينة القديمة لمدة عشر دقائق، عدت بعدها الى عملي. شعرت بالحنين، وانساقت روحي الى عبقها الإنساني، فأحسست أنني في حارات الشام القديمة، وأن المكان فسيح، يتسع للجميع، ويتناغم مع الثقافات المختلفة، فدهمني الوحي لأجسِّد تلك الفكرة بعمل فني مصغّر، جمعتُ فيه أدقّ التفاصيل، بدأته بعد زيارتي الثانية، وتنقصه فقط بعض اللمسات الصغيرة.
- مع أول أنفاس الصباح تشرق الشمس على مفاصل المكان، وعند المغيب تودّعه، ما الذي يشكّله المكان في الذاكرة؟
حين رأيت جدّة التاريخية وشممتُ عبق إنسانيتها، وجدت روحاً تخاطبني بحنين إنساني وإرث تاريخي، تدعوني لأكون معها ولها، تشاركني الفرح والحزن، تحاورني وتأخذني في رحلة إلى دمشق القديمة، الى مسقط رأسي كي أتنفس عبقها. إنها الأماكن التي تسرقنا من حياتنا، وتعيد رصفها، وتبقى على جسد الذاكرة بإرثها التاريخي لا يمحوها الزمن، ساكنة في الحواس، متربعة في الإحساس، وتعيد تشكيل حياتنا من أجل العطاء. كنت أشعر بالألم إن لم أشرب القهوة في النوفرة، وأرتبك إن لم أشمّ عبق الياسمين في حاراتها القديمة. ورغم أنني غادرتها قبل 19 عاماً، فقد ظلت شاهدة على حياتي.
- ما الذي شدّك في جدّة؟
الروح الإنسانية التي استوطنت تلك البيوت من سالف العصر والأزمان، والتي تعود الى عائلات متجذّرة ومن كل بقاع الأرض. جدّة هي الميناء التاريخي والتجاري للعاصمة المقدّسة مكة المكرّمة، ومهوى الأفئدة لكل حاج ومعتمر، لكل زائر ومقيم، ملتقى الحضارات، مفعمة بالثقافات، وتعجُّ بالأرواح الجميلة، والروائح العطِرة. جدّة التاريخية استهوتني بكل مفاصلها لأنها متفردة ومميزة عن باقي الأماكن.
- وماذا عن دمشق قلب الياسمين؟
دمشق مهد الحضارات، أتنفس منها عبق السنين والياسمين، جسّدتها في أعمال فنية كثيرة، من الحارات القديمة إلى البيوت التاريخية التي تحكي قصصاً إنسانية، وخضت بأدق التفاصيل من أركان البيت إلى النوافذ والأبواب، وكل حضارة مرت عليها، تركت لمسة فنية رائعة، وإرثاً إنسانياً وتاريخياً.
- مشبع بالأصالة، شغوف بالتراث، فهل هي حرفة امتهنتها؟
بدأت هاوياً للتراث وأنا بعدُ في سنّ الخامسة عشرة، حيث جسدتُ أول باب من أبواب الشام القديمة بمجسم صغير، مما شدّني لتجسيد بيت، ومن ثمّ حارة قديمة بأكملها. بعدها، بدأت أتعلّم مهنة الترميم من بعض الفنانين من طريق المساعدة، وغصت بين مفاصله، الى أن تمكّنت من ترميم القطع الفنية القديمة والنادرة، ودخلت المجال من أوسع أبوابه، وامتد نشاطي إلى جدّة حيث شاركت في معرض الجنادرية 2003 بفن الديوراما، وهو فن تجسيد الواقع بأسلوب مصغّر، لكن عرض العمل أبعدني عن الفن لسنين طويلة، إلى أن أعادتني إليه أول زيارة قصيرة لمدينة جدّة التاريخية.
- تصمّم مجسمات مصغّرة لمدينة جدّة التاريخية، فهل تحب العيش في ذاك الزمن؟
كل لحظة وكل دقيقة أعيشها في ذاك الزمن الجميل، وهو لن يبارح مخيلتي أبداً، لأنه زمن الأجداد الذين تركوا لنا إرثاً تاريخياً نتنسّم منه روحاً نقية وريحاً طيبة، وأخلاقاً حميدة مميزة.
- فرشاتك تضرب بأدق التفاصيل الموجودة سواء في الجدران أو الأسقف، ما الذي ترمي إليه؟
كل ما أجسّده في أعمالي، أنقله بصدق من الواقع بأدق تفاصيله، وكل عمل ينتمي الى حقبة تاريخية معينة، فقد جسّدت حقبة التسعينيات، واليوم أجسّد حقبة الخمسينيات في جدّة التاريخية، تلك الحقبة الجميلة تعود للآباء والأجداد، ويتذكّرها كبار السنّ، وقد ركّزت على تلك الحقبة الحساسة لأنها تشكل مرحلة انتقالية بين الماضي والحاضر، محاولاً دمج الحقبة بتفاصيل المرحلة الانتقالية الحقيقية، بما فيها الإعلانات والملصقات الموجودة على الجدران والأعمدة، ونُسخ من الجرائد القديمة.
- كم استغرق هذا العمل من وقتك؟
نظراً لاشتمال المجسّم على جزءين فنيين، الأول هو الديوراما الذي جسّدت فيه بيوت جدّة القديمة بتفاصيلها الدقيقة، والجزء الثاني هو المنمنمات، ويضم أكثر من 1700 قطعة يدوية صمّمتها وصنعتها بيديّ، فقد استغرق العمل عليه 3 سنوات إذ اهتممتُ بتوثيق حقبة تاريخية كاملة بكل تفاصيلها، داخلاً وخارجاً، ببيوتها، بمحالها، بالباعة المتجوّلين، وبألعاب الأطفال... والعرض سيُقام بعد عيد الفطر إن شاء الله.
- أين سيُقام العرض؟
أتمنى أن يُقام في أي معرض مقبل لتراه أكبر شريحة في المجتمع، وهو سيكون إما في افتتاح فرع جديد للجمعية أو في أي معرض شامل.
- عملت بالترميم، هل رممت في المملكة العربية السعودية؟
رمّمت بعض القطع الأثرية النادرة والمخطوطات القديمة.
- من رحم الحنين يولد الجمال، أي نوع من الحنين دفعك لتجسيد الواقع؟
حنين المكان الذي تسكنه الأرواح الطيبة، دفعني لتجسيد هذا العمل، فعلى الرغم من أنني زرت عدداً من البلدات القديمة في الكثير من الدول، أؤكد أن جدّة القديمة تتفرّد بخاصية مميزة.
- المنمنمات اشتهرت بها المخطوطات البيزنطية والفارسية والعثمانية والهندية والفرعونية، ماذا عنها؟
المنمنمات من الفنون القديمة، وتعود الى ما قبل العصر الفرعوني، وهي عبارة عن تصغير للأشياء، وقد بدأ هذا الفن بالعودة الى الساحة الفنية بجهود بعض الفنانين، وهو مشهور في أوروبا وخاصة في ألمانيا في كندا وأستراليا.
- أي أنك أدخلت على المجسم فنوناً عدة؟
نعم، ومنها الديوراما والمنمنمات والنحت والرسم والفنون التشكيلية بشكل عام، وكذلك الرسم الزيتي والنقش على النحاس، والأرابيسك والقيشاني القديم، لأن تلك المنطقة تزخر بالفنون التي كان الحجّاج يجلبونها معهم من بلاد الشام.
- ما شكل الأواني المنزلية التي صمّمتها؟
كل الأواني المستخدمة آنذاك كانت صغيرة الحجم، لتتناسب مع حجم المجسم، لأن المقياس 1/18 صغير جداً، ربما دلّة القهوة لا يتجاوز ارتفاعها 1 سم، وهناك فناجين القهوة والسيوف والخناجر والسماور والمصابيح والفخاريات، وكل ما توافر في تلك الحقبة.
- وماذا عن الإنسان في تلك الحقبة؟
لطالما سُئلت لماذا لا تجسّد السّقا، والبائع المتجوّل، والطفل الذي يلعب "الكيرم"...، لكن بصراحة حين بدأت بتشكيل جدّة القديمة، حصرت العمل في 5 بيوت فقط، لكنني كسرت الرتابة حين شعرت بأنني ركّزت على بعض بيوت جدّة وتركت أخرى عريقة لا وجود لها إلا في الصور، وهذا يُنقص من قيمتها، فجمعت من كل بيت عنصراً لأعطي لكل ذي حق حقه، وجسدت كل عناصر العمارة والوحدات الزخرفية بجدّة القديمة في هذا المجسم. لذا شعرت أنني إذا جسّدت إنساناً فهذا سينتقص من روحانية المكان، والأفضل أن تبقى الحياة نابضة بصمت.
- كيف كانت مشاركتك في مهرجان الجنادرية، وماذا قدمت؟
شاركت بمجسم صغير لأحد البيوت القديمة في مكة المكرّمة، وكان متوسط الحجم، ولاقى إقبالاً شديداً، ولدي مجسم آخر أعمل عليه اليوم.
- كيف تقيّم عودتك الى الفن؟
نظراً للاهتمام الكبير الذي وجدته من بعض المعنيين، ولكثرة الزيارات إلى مرسمي والاتصالات المتكررة، أعتبر العودة الى الفن عودة ميمونة ورائعة بكل المقاييس.
- كيف تقرأ هذا الاهتمام بالتراث؟
منذ العام الماضي، تشهد المملكة العربية السعودية حركة فنية قوية وغير مسبوقة، مما يدل على أن المنطقة تولي التراث اهتماماً، ومن المتوقع أن يشهد العام المقبل زخماً فنياً قوياً إذ تقدّم الحكومة الرشيدة الدعم للفنانين والأماكن التراثية في كل مناطق المملكة العربية السعودية، وخاصة الأماكن التي انضمت الى اليونسكو أخيراً، مما يعزّز السياحة الأثرية، لكون المملكة تضم إرثاً تاريخياً عريقاً.
- كيف ترى السياحة في 2030؟
السياحة صناعة، وبالتالي هذا الاهتمام الكبير بالإرث التاريخي سيصنع سياحة عظيمة، وإن استمر بهذا الزخم فسيظهر في 2030 كل ما هو جميل في المملكة العربية السعودية ما تكتنزه من حضارة عريقة.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024