تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

الفنان التشكيلي اللبناني سمير أبي راشد لوحته... أنفاسه

الرسام سمير أبي راشد

الرسام سمير أبي راشد

بريشة سمير أبي راشد

بريشة سمير أبي راشد

لوحة لسمير ابي راشد

لوحة لسمير ابي راشد

وجه  لسمير ابي راشد

وجه لسمير ابي راشد

تتميز أعمال الفنان التشكيلي اللبناني سمير أبي راشد بخصوصيتها ومحاكاتها للزمن والواقع، وقدرتها على التشكل وفق زمنها وصورها المفتوحة على تنوعات الشكل والمعنى. فنان تشكيلي ينتمي الى عالم خاص، عالم غريب لا يشبه سواه. فنان «سوريالي» ولكن بنكهة خاصة جداً، لا تتشابه مع سواها من التجارب والأعمال. ورغم أن لوحاته تنتمي الى هذه السوريالية التي تعمل على تحويل الواقع الى آخر غير مستقر، إلا أنها بقيت محافظة على خصوصية ابتكرها الفنان منذ انطلاقته الفنية مع اللون والريشة.


في لوحات أبي راشد مسافة مفتوحة للبصر، استطاع من خلال مدّها وعرضها أن يرسم مسافة أخرى غامضة، بإشارات واضحة ومتناسلة من ذاتها، كمن يفتح الباب ويدخل، فيجد مئات الأبواب المقفلة التي تدعوه لفتحها. أضاءت اللوحة جوانب كثيرة من الوعي الباطني، وكشفت قوة الفعل والخيال والموهبة المجتمعة في شخصية الفنان، فهو يذهب مع الخيال الى مناخات غريبة لا يمكن أي انسان تخيّلها أو ابتكارها.

استطاع سمير أبي راشد الفنان التشكيلي المخضرم لفت الأنظار والأقلام الى لوحاته، وأعماله السوريالية المجنونة (بتعقّل) جعلت المهتم والمتابع يعيش في حركة متواصلة، وحركية صاخبة مع ما يمكن أن يبتكره هذا الفنان من صور قديرة وصاخبة في الوقت نفسه.

يرفض أبي راشد «تهمة السوريالية»، ويأبى تشبيهه بأي فنان سوريالي آخر، ويقول: «ربما كنت سوريالياً، لكنها سوريالتي الخاصة.أنا فنان سوريالي من نسج ذاتي وسورياليتي تنبع من واقعي وبيئتي وأيامي، من وعيي الذي تنامى، كوردة جابهت الرياح وحافظت على عطرها وأوراقها. إنها سوريالية خاصة، واذا تشابهت مع أحد ما، فهي تتشابه معه بالاسم فقط، وليس بالشكل والمضمون، إنما بالشكل والمضمون فالأمر مختلف كلياً. رسمت وأرسم الخيال الذي أعيشه وأتحسسه وأتذوقه، والخيال حين يكون على تماس مباشر مع الواقع، فهو حتماً يؤسس لخصوصية ومناخ ومسافات مختلفة عن السائد، مختلفة عن كل ما يحيط بواقع الفنانين الآخرين. إنه اختلاف جذري جداً، ولا مجال للمقارنة».

اتهام آخر يرفضه أبي راشد، وهو تشبيه لوحاته بلوحات الفنان السوريالي الإسباني سالفادور دالي، وقد سألته: لوحاتك تذكّرنا بأعمال سالفادور دالي، فقال: «لا يمكن التشابه أن يحدث. ربما تأثرت بأعمال سلفادور دالي وأُعجبت بها، ولكنني لا أشبهه في شيء، وأعمالي لا تشبه أعماله، فمن أين وكيف رأيت هذا التشابه؟ سورياليتي تختلف تماماً عن سوريالية دالي. هو من واقع مختلف عن واقعي، وخياله مغاير لخيالي، وكذلك أفكاره، هو من عصر ومكان وزمان وأنا من عصر وزمان ومكان مختلف، فكيف يكون التشابه؟». ولمزيد من التوضيح، أضاف أبي راشد: «أكرر القول إن التشابه مستحيل. صحيح أن لوحاتي تنتمي الى الفن السوريالي، وهذا الفن ارتبط باسم دالي، لكن الأمر مختلف بالنسبة إليّ. ذلك أنني أنتمي الى عيني وأحاسيسي المنشغلة ببناء الخصوصية. أنا فنان يرسم الخيال بعد أن يختمر في الذهن، بعد نضوجه وانشراحه وتفوقه، وهذا الخيال مصدره الواقع والإنسان والمكان والأفكار، وكل فنان ينطلق من ركيزة خاصة لا تشبه الآخر. أنا أحب أعمال سالفادور دالي كثيراً لكنني لا أقلّدها أبداً. هي تُعبّر عن عالم دالي، ولوحاتي تُعبّر عن عالمي، وبين العالمين ثمة مسافة زمنية وجغرافية وإنسانية وخيالية وشاعرية وفكرية ولونية تمتد الى ما لا نهاية، الى حيث تكمن الرغبات الطافحة بالحياة والخيال والأشكال والألوان واللغة. لا يمكن الفنان الأصيل الخروج الى أماكن الإبداع الا بصحبة ذاته فقط».

يرتكز الفنان أبي راشد في عمله الفني وفي لوحاته المميزة على أساس متين وقناعة راسخة في ذاته وبصره وعقله وروحه، ويقول في تفسير هذا «التشابك» الإبداعي: «ليس للفنان سوى ذاته، سوى معشر أحاسيسه المجبولة بصمته وصراخه. الفنان ينطلق من الحلم الى الرمز، وحين ينطلق يحمل معه كل لحظات الفعل والخيال، كل الكائنات، كل الزمان وكل المكان، وفي هذه اللحظة، تتفجّر لحظات أخرى اسمها لحظات الإبداع المتجلية. نعم، هناك في الأعماق السحيقة في الروح والخيال، لحظات تجلٍ صافية لا يمكن الوصول إليها الا بوصول الإلهام معها».

أكثرت من أسئلتي عن السوريالية، سوريالية أبي راشد، ولم يتردد وسارع في القول: «السوريالية فعل مؤثر متجذّر في روح البشرية. أول انطلاقة للإنسان بدأت بالسوريالية، بالعمل السوريالي، بالنشاط السوريالي. الحياة مشهد سوريالي مفتوح الى ما لا نهاية». يسعى الفنان، بلوحاته وأفكاره، الى تمتين المواجهة في الحياة، مواجهة الصعاب مهما تعاظمت: «لا يمكن الفنان إلا بناء الحلم وتزويد الواقع بابتكارات. لا حلّ وسطاً. بناء الحلم يتطلّب الجهد الكبير والأكبر لمواجهة الواقع أو الأمر الواقع، والفنان يستطيع تحقيق كل الأحلام مهما كان الواقع صعباً. الاصرار يولّد الأمل، والأمل هو ذروة النجاح، واللوحة حين تكتمل، بكل عناصرها، تتوّج صورة الأمل على مدار الوقت وحتى في اللحظات الهاربة والجاثمة في زوايا العمر او تحت خط البصر. لا بد للفنان من أن ينجب عالماً داخل هذا العالم».

أما فكرة المواجهة، مواجهة الواقع بما يوحي بالقسوة، فهي بالنسبة الى أبي راشد مغايرة لهذا المنحى. إنها مواجهة مع اليأس والألم، مواجهته تعني تتويج المحبة: «أجمل ما في التعب هو التعب نفسه أثناء لحظة العمل والبناء. الإنسان يتوهّج بالمحبة. رفض الشر يجب أن يكون بعنف وقسوة، وثمة لوحات رسمتها بهذا الدافع، وألوانها كانت مُعبّرة بامتياز عن هذا الرفض لكل أشكال الشر والإرهاب والقهر والسوء الذي يطبع حياة البشرية منذ بدء التاريخ. إنني على قناعة كبيرة بقدرة المحبة على تحويل اليأس الى سعادة. نظريتي أو نظرتي الى الواقع ليست سلبية، بل قائمة على فعل يسعى الى بناء واقع جديد تترعرع فيه كل ايجابية، والمحبة بكل أشكالها وألوانها، والخير بكل تنوعاته. الحضارة البشرية لا تُبنى إلا بتوهج الحلم، بتضافر الفن في ذاته وامتزاجه مع وعي الحياة». المرأة حاضرة بقوة وحنان عظيم في لوحاته. للمرأة جنون الأحاسيس للفنان: «نعم المرأة هي العالم كله. المرأة هي الوعي المقدس. في كياني توق دائم للاندماج مع المرأة حتى الموت، من الموت تولد قوة الحياة. المرأة ثورة حياة مستمرة». وفي لوحات أبي راشد أيضاً عالم شامل وطبيعة صامتة وناطقة وجارية مثل مياه، ودلالات لا يمكن حصرها في إطار محدد، وثمة إحساس للمتلقّف، للمتابع والمحدق بلوحة الفنان. ثمة من يتوقف عند الموسيقى التي تشي بها هذه اللوحات، اذ يتخيل المتابع والمهتم بتفاصيل كل لوحة، صوتاً موسيقياً ينساب من الألوان والأشكال المتجسّدة داخل اللوحة، ويكاد يسمعها بعينيه. صوت الألوان الصافية في الذهن والسمع.

قلتُ للفنان، لوحاتك متأثرة بالموسيقى الى حد كبير، فأجاب من دون تردّد: «الموسيقى عزّنا وزادنا وعيشنا .أنا متأثر كلياً بالموسيقى، ولكثرة سماعي لها، لم يعد في امكاني الخروج من دائرتها، وتالياً هي حاضرة داخل كل التفاصيل التي تسعى كل لوحة الى تجسيدها. كل الموجودات في هذه الحياة تتمتع بلغة مشتركة مع سواها، واللوحة والموسيقى تجمعهما لغة مشتركة ونبض حيّ وإيقاع جاذب لا يمكن الموسيقى تجاوزه، كما لا يمكن الفنان تجاوزه والقفز فوق مسافاته الشاسعة. ربما كانت الموسيقى من أساسيات الشكل المحسوس والمسموع، بل هي كذلك تماماً».

المفارقة الأجمل في مسيرة الفنان أن كل الفنون تحرّضه على الرسم والابتكار: «حين أقرأ قصيدة تعجبني أرسم، وحين أسمع موسيقى راقية أرسم، وحين أرى إيقاع الحياة وأسمعه، بكل أشكاله وألوانه أرسم. الرسم هو فعل حياة بامتياز. اللوحة هي محيط العالم، وهي الخط المفتوح مثل خطوط العرض وخطوط الطول».

قلت له: في لوحاتك قوة رفض هائلة وفعل ابتكار وقوة حياة ورموز هائلة... ولكن رغم هذا كله ثمة إشارات ودلالات ترسم قوة الحزن؟

فأجاب: «نعم. الحزن يحضر كثيراً. هذا صحيح، في لوحاتي ألم وحزن وقهر، وكل هذا نابع من تأثير فعل الواقع المعاش والمحسوس في شخصيتي وأيامي. لكنه حزن قابل للصرف إبداعياً».

- والفرح في حياتك؟

«ربما كان الحزن هو مسافة المتعة التي توصلني الى الفرح. الفرح حاضر بقوة اللون في لوحتي».

- متى ترسم وكيف؟

«أرسم كل يوم. كل لحظة. أدوّن اللون والشكل بشكل دائم. ربما طقوس الرسم في حياتي تشبه أنفاسي، فإذا توقفت ألواني، توقفت أنفاسي».

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078