في تحية كوكب الشرق
ما إن تصل إلى مدرجات قصر بيت الدين في أعالي جبال لبنان وترى القمر يسبح في قلب السماء مُرحّباً بك حتى تشعر بأنك دخلت مكاناً غير الذي تسكن فيه... وما إن ترى المايسترو سليم السحّاب ببذلته البيضاء يومئ بيده إلى فرقته الماسية لتعزف أروع المقطوعات الكلثومية حتى تشعر بأنّك دخلت زماناً غير الزمان الذي تعيشه...
ليلة افتتاح مهرجانات بيت الدين لم تكن عاديّة هذا العام، فالحضور الذي تهافت إلى الحفل قبل ساعات من بدئه كان كالهارب من أرض فقيرة الثقافة والفنّ والفكر إلى عالم من الإبداع الفني الخالص. تفاعُل الجمهور لم يكن تدريجياً، بل حماسته العالية كانت غالبة عليه منذ أن رفع المايسترو والمؤلّف اللبناني الكبير سليم السحّاب عصاه الساحرة وبدأت الأوركسترا بعزف مقطوعة«هذه ليلتي» التي زادت ليل بيت الدين رومنسية وعذوبة. فارتفعت الآهات وعلا التصفيق أرجاء المدرجات التي تقدّمها رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان وعقيلته والرئيس فؤاد السنيورة وعقيلته والنائب وليد جنبلاط وزوجته رئيسة مهرجانات بيت الدين السيّدة نورا جنبلاط.
وعلى أنغام الموسيقى الكلثومية الرائعة التي أجادت الفرقة عزفها بحرفية عالية وعلى خلفية صور كوكب الشرق دخلت الفنانة آمال ماهر على الجمهور بفستان أبيض طويل، فسحرت عين الحاضرين بقامتها الشاهقة وطلتها الأنيقة قبل أن تسحرهم بصوتها الذي أطرب كلّ الحاضرين المشتاقين إلى أم كلثوم وصوتها وفنّها وزمنها الجميل. واختارت ماهر أن تبدأ تحيتّها إلى السيّدة أم كلثوم بأغنية «إنت عمري» ومن ثمّ غنّت «سيرة الحب» و«دارت الأيام» و«الأطلال»، إلاّ أنها اختتمت الحفل برائعة عبد الوهاب «ألف ليلة وليلة». كما تمّ عرض تسجيلات وتقارير خاصة تستعيد بعض الأحداث المفصلية في حياة أم كلثوم الفنية والشخصية مثل لقائها بموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وثورة الضباط الأحرار وسقوط الملكية وطلب منعها من الغناء ورفض عبد الناصر الأمر باعتبار أم كلثوم رمزاً مصرياً خالداً لا يُمكن محوه تماماً كالنيل والأهرامات...
وهذه الثقارير إلى جانب الأغنيات الكلثومية الرائعة أدخلت الجمهور في تاريخ آخر وجغرافيا مغايرة، فموسيقى أوركسترا أم كلثوم وصوت آمال ماهر الشجي وأغنيات كوكب الشرق وصور الرئيس الراحل عبد الناصر على الشاشة الخلفية وكلّ ذلك جعل الحاضر في باحة قصر بيت الدين يظنّ أنّه في قلب أهرامات الجيزة. وهذا التحليق النفسي الذي أحسّه جمهور أولى حفلات مهرجانات بيت الدين لعام 2009 هو بحدّ ذاته تكريس لقيمة هذه الأوركسترا العظيمة ولموهبة الفنانة آمال ماهر التي أطربت الحضور من مختلف الفئات العمرية بصوتها الذي جمع بين القوة والإحساس واستطاعت أن تنسيهم حقيقة أنّهم يعيشون في الواقع عصر الركاكة الموسيقية والإستهلاك الفني. وهذا التفاعل المُدهش بين جمهور الحاضر وفنّ الماضي شهدت عليه أركان قصر بيت الدين التي اهتزّت لشدّة الحماسة والتصفيق. وردّات فعل بعض الحاضرين الذين أخذوا يهتفون للفنانة الشابة «عظمة على عظمة يا ستّ» ليس سوى تأكيد على أنّ فساد المستوى الفني اليوم لا يعني أبداً فساد الذوق العام الذي ما زال يرغب في سماع الفنّ الراقي والطرب الأصيل.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024