بلغاريا Bulgaria حيث التاريخ يتعطّر بالورد
تسرّع المناظر الطبيعية في بلغاريا نبض المتجولين، وسائقي الدرّاجات الجبلية والمتزلجين. تمتد عبر البلاد سبع سلاسل جبلية، وبحيرات جليدية مستريحة بين القمم المغبرّة بالثلوج، فيما الغابات المتشابكة تمرح فيها الذئاب والدببة والسنور، ما يتيح لك إلقاء نظرة على الماضي البدائي لأوروبا. فيما شبكات الممرات الطبيعية ترميك وسط الجمال الحابس للأنفاس مثل استعراضات الضباب في مجموعة «ستارا بلانينا» وشروق الشمس من ثاني أعلى قمة في بلغاريا «مت فيهرين» 2915 مترًا. بين فوضى الجمال الطبيعي والإنساني، تبدو بلغاريا بلدًا تستحقين زيارته، والاستمتاع بجماله بكل تفاصيله.
بلغاريا التاريخ مزيج إثني انبثقت منه حضارة
يُنسب اسم بلغاريا إلى التركمان، وهم خليط من قبائل المغول والأورال، سكنوا في شمالي دلتا الدانوب في النصف الثاني من القرن السابع، وكان قد سبقهم إليها الشعب السلافي قبل قرن، والذي اختلط بالشعب الهندو-أوروبي. انبثقت من هذا المزيج الإثني حضارة فريدة بسبب اتصالها بالمستعمرات اليونانية التي وُجدت على ساحل البحر الأسود.
خضعت بلغاريا للسيطرة العثمانية بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر. ورغم أن التاريخ لم يرحم اسطنبول، وفرمانات بابها العالي، يعترف الكثير من المؤرّخين الغربيين بأن بلغاريا عرفت تطورًا وازدهارًا ملحوظين خلال تلك الفترة مقارنةً بالنظام الشيوعي الذي خضعت له بعد الحرب العالمية الثانية عام 1943، والذي سقط مع سقوط جدار برلين عام 1989 وتلاشي أوهام المعسكر الشيوعي.
هذا ما كتبه التاريخ عن بلغاريا وجغرافيتها السياسية والطبيعية، وهذا ما يمكن أن ترين في بلغاريا اليوم.
صوفيا العاصمة
كثيرًا ما يغفل الزوّار عاصمة بلغاريا ويتوجّهون مباشرةً إلى الساحل أو منتجعات التزلج، ولكنهم يفتقدون شيئًا خاصًا. فصوفيا ليست حاضرة كبرى وحسب، بل مدينة حديثة إلى حدٍّ كبير، وفي الوقت نفسه تضجّ بالمعالم التاريخية التي تعكس إبداعات الهندسة المعمارية لمختلف الأنماط الفنية للشعوب التي مرّت عليها، لتحضن مزيجًا حضاريًا جمع الفن اليوناني والروماني والبيزنطي والبلغاري والتركي. إذ تنتشر فيها الكنائس ذات القباب البخارية، والمساجد العثمانية والمعالم المتقشّفة للجيش الأحمر التي تعطي شعورًا انتقائيًا وغريبًا. كما كشفت أعمال الحفر التي أُجريت أخيرًا أثناء بناء مترو المدينة كنزًا من الآثار الرومانية التي تعود إلى ما يقرب من 2000 سنة، عندما كانت المدينة تُسمّى «سيرديكا».
- ماذا يمكن أن تفعلي في صوفيا؟
قد تحارين من أين تبدئين، فكل ركن وشارع في صوفيا ينطق سحرًا وتاريخًا. إنها مدينة تفاخر بمسارحها المتعدّدة، ومتاحفها ودور الأوبرا، ومعارض اللوحات والتحف، خصوصًا المعرض الوطني للوحات الذي يضمّه القصر الملكي. وفي متحف علم الآثار وعلم الإثنيات سوف تخترقين بوابة عودة الزمن إلى عالم الحضارات القديمة التي حضنتها بلغاريا آلاف السنين. في العادة، نظن أن زيارة المتاحف هي قراءة تاريخية مجسّدة بقطع أثرية، في حين أن مشهد وقوف هذه الآثار وفق تسلسلها التاريخي يكشف المعنى الحقيقي لحوار حضارات ما كانت كل واحدة منها لتكون عظيمة لولا سابقتها.
أما شوارع صوفيا فهي أشبه بمتحف حدوده السماء. فكاتدرائية ألكسندر نفيسكي التي غُلّفت قبّتها بالذهب هي تحفة فنية تشرف على المدينة بأكملها، وقد شُيّدت لمناسبة تحرّر بلغاريا من سيطرة الأتراك أثناء الحرب التركية- الروسية في نهاية القرن التاسع عشر.
ولا تزال المدينة تحافظ على الجوامع التي بناها العثمانيون، ومسجدا «بويوك» و»بانيا باشا» خير شاهدين على ذلك. يضم مسجد «بويوك» تسع قباب تحضن متحفًا للآثار وهو أكبر جامع في صوفيا، أما جامع «بانيا باشا» فهو نموذج رائع للهندسة المعمارية العثمانية.
وبعيدًا عن المباني والشوارع، توفّر الحدائق الواسعة المشذّبة فترة راحة ترحيبية، فيما يمكن أن تشكّل صوفيا لهاويات التزلج نقطة انطلاقتهن نحو الجنرال الأبيض إذ تبعد العاصمة عن محطّات التزلج ومسارات المشي لمسافات طويلة في جبل «فيتوشا»، مسافة قصيرة بالحافلة.
التسوّق
توجّهي إلى سوق هالي المغلق حيث توجد الحمّامات التركية، وعلى مقربة منه، سوق الأنتيك والبرغوت حيث تُباع قطع الأثاث القديمة. أمّا معالم وسط المدينة التجاري فقد تبدّلت ، إذ منذ أكثر من عقد شهدت صوفيا تغيّرات دراماتيكية في أسلوب حياتها، وبعد أن كانت خلال الحكم الشيوعي تعيش حالة تقشف، أصبحت اليوم أسواقها تعرض لأهم دور الأزياء العالمية، إضافة إلى المنتجات المحلية مثل الأعمال الحرفية والسيراميك والجلود والسجّاد. يقال إنه إذا أعجبك شيء في سوق صوفيا، عليك شراؤه فورًا فحين تعودين لن تجديه.
بلوفديف المدينة الثانية في بلغاريا: متحف طبيعي يحتشد فيه التاريخ بكل مراحله
تقع بلوفديف في سهل «تراس» ووسط سبع روابٍ. للوهلة الأولى قد تظنين أنك دخلت إلى متحف طبيعي، يخترقه نهر «ماريستا»، يفصل بين التاريخ المحتشد بكل مراحله، والحداثة المنبسطة على الضفة المقابلة للنهر. عُرفت بلوفديف التي تأسست عام 342 قبل الميلاد باسم لوسيان في عهد اليونان. وفي الجزء العتيق منها قلاع تتميز بأسوارها ذات النمط البيزنطي، وقصور غنّاء يعود تاريخها إلى الحقبة الواقعة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فجاءت على نمط الهندسة المعمارية لعصر النهضة.
تطالعك أثناء التجوال في الأحياء الضيّقة المرصوفة بالحجارة أطلال رومانية من بينها مسرح لا يزال قائمًا بأبّهته. وتتجاور في هذه الأحياء البيوت التي تعود إلى القرون الوسطى وهي متلاصقة. وتجلس عند أقدام هذه المباني المتاجر الصغيرة التي تبيع التذكارات والتحف البلغارية، ولا سيّما الألعاب الخشبية التي تعكس الأزياء التقليدية.
ماذا يمكن أن تزوري في بلوفديف؟
مسجد «دجومايا» واحد من أكبر المساجد في بلغاريا. يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر، عندما فتح العثمانيون بلغاريا.
بيوت عصر النهضة البلغارية
عصر النهضة الوطنية البلغارية هو الفترة التي استمرت من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر، وتعكس إرادة الشعب البلغاري في تأكيد هويته في مواجهة الإمبراطورية العثمانية. أدّت هذه الحركة إلى إعلان استقلال بلغاريا عام 1878. وتضم البلدة القديمة في بلوفديف العديد من المنازل البرجوازية الجميلة التي يرجع تاريخها إلى ذلك الوقت. ومن بين أجمل المباني منزل «كويومدجيوغلو»، الذي يضم راهنًا متحف الإثنوغرافيا، وبيت «ديميتر غورغيادي» وهو متحف التاريخ وعصر النهضة الوطنية البلغارية. كذلك لا تفوّتي زيارة بيت الشاعر والكاتب الفرنسي «لامارتين»، الذي عاش في بلوفديف فترة وجيزة عام 1833 أثناء كتابة رحلته إلى الشرق، حيث يوجد متحف صغير للكاتب.
وادي الورد يعبق بالسحر
ومن بلوفديف توجّهي بالحافلة نحو وادي الورد. سوف تجدين نفسك خلال اختراق الحافلة وسط مشاهد طبيعية تأخذ الألباب يزيدها جمالاً الطقس الشتوي الذي ينثر سحره على البلقان. تقتربين من وادٍ يتضمّخ بعطر الورد، إنها بلدة كارلوفو التي يحضنها وادي الورد. عندها ستعرفين سرّ الرائحة.
يشتهر الوادي بزراعة الورد، وهو أحد الرموز البلغارية. فقد اشتهر بزراعة الورد الدمشقي منذ قرون، والذي يستخدم على نطاق واسع في الصيدلة، والعطور وغيرها. يتمتع الوادي بمناخ شتوي معتدل قصير وربيع حار طويل.
وللورد أسطورة في تراث بلغاريا الشعبي. يُحكى أن إمبراطور المغول جيهانجي كان يملك في قصره رياضًا تُروى من قنوات مياه الورود. وفي أحد الأيام تنبّهت إحدى زوجاته إلى العطر المنبعث من هذه القنوات، فأمرت بقطف الورد وتقطيره. ومنذ ذلك الحين ظهرت صناعة خلاصة زيت الورد.
يعتبر متحف «إيسكرا» المتحف الوحيد من نوعه في بلغاريا والذي يُظهر تطور صناعة الورود التقليدية والمعاصرة في بلغاريا منذ بدايتها إلى أيامنا هذه. بينما في متحف «كولاتا» التاريخي الإثنوغرافي الجذاب في مدينة «كازانلوك»، يمكنك مشاهدة صناعة عطر الورد بدءًا من وضعه في الماء المغلي إلى عملية التقطير بأسلوب تقليدي وصولاً إلى استخراج زيوت الورد، ويمكنك خوض هذه التجربة بنفسك والحصول على منتجك الخاص إمّا من العطر الوردي أو من المربّى.
ومن عطر الورد وتقطيره، توجّهي إلى منزل «فاسيل لفيسكي» بطل بلغاريا القومي الذي أُعدم قبل خمس سنوات من تحرير بلغاريا من السلطة العثمانية. البيت متواضع ويتألف من طبقة واحدة، وتحوّل اليوم متحفًا يحكي قصة هذا البطل.
بعد ذلك، جولي في أحياء كارلوفو القديمة المرصوفة بالحجارة، فالبيوت القديمة بواجهاتها المطلية بألوان زاهية، وشرفاتها الخشبية والأعمدة التي تحيطها تبدو لوحات زيتية امتزجت بالجمال الطبيعي لينبثق منهما سحر فريد يأسر كل الحواس، فلا عجب في أن تبدو على وجوه سكان هذه البلدة السعادة اللامتناهية.
لا تفوّتي طبق الجبن البلغاري
«سيرين» هو الجبن البلغاري المعروف لدينا في الشرق الأوسط. هكذا يسمّيه البلغاريون «سيرين»، فمن هذا الجبن يُقدّم طبق مقبلات سيرين وهو عبارة عن قطعة من الجبن البلغاري الأبيض يُرش عليها الفلفل الأحمر، وهذا الطبق هو الأكثر شيوعاً في البلاد.
بانيتسا مع سيرين، وهو طبق ملقّب بـ»ملك الطعام» في الشوارع، عبارة عن رقائق بالجبن البلغاري. ثم جرّبي تشوشكا بوريك، أي شيش برك، ولكن ليس العجين المحشو باللحم، إنما المحشو بالفلفل الأحمر والجبن، ثم يتم خبزه، وهو أمر لا بد منه في قائمة كل مطعم بلغاري تقليدي.
سيرين خبز مع العسل والجوز، بطاطا مقلية مع سيرين، وسناك سيرين مع البطيخ.
هدية مميزة
قارورة من خلاصة زيت الورد البلغاري ستكون هدية مميزة لمن تحبين.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024