الفنانة كاتيا طرابلسي تطوع الحديد والنار بأناملها
مئات القذاف الحربية نصبتها في معرضها الضخم في غاليري صالح بركات في بيروت ــ الحمراء ، وأعطت لكل قذيفة ثوباً ونقوشاً ورسومات، مأخوذة من حضارة البشر، لكل دولة «قذيفة» بثوب من قماشتها وتراثها. أعطت لكل بلد حقه التراثي والجمالي. غلّفت هذه الذخائر بصور ورموز البلاد. وأدخلت السيراميك والنحاس والخشب والحديد والألمنيوم والقماش والخيوط القاسية والحرير والألوان الصافية ، جمعت كل ما أنتجته حضارة البلاد وشعوبها وغلّفت بها تلك القذائف، بل سكبتها من جديد على أشكال جمالية تراثية تاريخية، فظهرت بقوالب متنوعة، كل قالب بمثابة علم لكل وطن من أوطان العالم. وتقول كاتيا إنها اختارت هذا العمل من منطلق أساسي وقناعة راسخة في ذاتها، قناعة لا تعترف بالحروب الناشئة بين البشر : «لا يمكنني تقبّل فكرة الحرب، الحرب بين إنسان وإنسان أمر غير مقبول بالنسبة إلي، ولا يقدم للبشرية سوى خرابها ودمارها».
تعترف طرابلسي بأنها مصابة أو مولعة بالرفض، رفض كل ما ينتجه الإنسان من أشياء وأفعال قاتلة : « ترعبني مشاهد الحروب وما ينجم عنها من ويلات ، ولولا الإنسان المخترع أسباب هذه الحروب لما كانت هذه الويلات ولا هذه الاختراعات القاتلة للحياة ... لقد سخرت هذا الرفض في داخلي وجعلته صورة نابضة ومحرضة على نشاط الجمال والسلام. واستطعت قلب صورة الخراب وحولتها الى صورة بناء، بناء محسوس ويمكن تحسّسة باليد المجردة كما العين المجردة».
«قذائف» كثيرة في معرضها تنتصب وتمثل بلد منشئها، وأرادتها طرابلسي بغير معناها المدمر، إذ نرى، على سبيل المثال «قذيفة» برازيلية ولكنها قذيفة (ناعمة) ومنحوتة على الخشب وتحمل معالم الحضارة القديمة للبرازيل. ومن يتمعن في تلك المنحوتة يمكنه قراءة الكثير من تاريخ الحضارة القديمة التي عرفتها بلاد السامبا. والأمر ينسحب على بلاد كثيرة مثل الهند والصين وأميركا وفرنسا وألمانيا ولبنان والعراق، وربما كل دول العالم استحضرتها الفنانة بـ «قذائف فنية» بالغة الدقة والخصوصية والجمال، وعكست من خلالها حضارة تلك البلاد، والمهم واللافت في ذلك، هو بناء الصورة أو الخصوصية الحضارية والجمالية لكل بلد طرقته، وتقول كاتيا : «عملت لسنوات طويلة وتجولت في أغلب مناطق العالم ومدنه ، لتقصي حضارة كل بلد، وبعد جهد جهيد استطعت تقديم منحوتات تجسد هذا الشعور الهائل والذي يجمع تفاصيل البلاد ويأخذ منها رموزها الجمالية والحضارية، ونويت بذلك القول، إن أسلحة الحروب مهما بلغت قوتها التدميرية، لا يمكن أن تدمر معالم الحضارة».
تتوزع الرؤوس الحربية في معرض كاتيا كتماثيل ناطقة، كل تمثال ينطق بمعناه وبخصوصية البلد الذي (ولد) واستعمل فيه، ولم تكن الفنانة لتقوم بهذا الجهد التحويلي لولا ذاك الاحساس الهائل الذي يتحرك في ذاكرتها وفي مساحة عيشها، إحساس مسؤول يعتبر الجمال ضرورة في الحياة، ونبض حتمي لتجسيد الجوهر: « لا يمكن الفنان أن يتقبل فكرة موت الإنسان ودمار حياته على يد أخيه الإنسان، لذلك يقوم الفنان بالعمل والفعل والنشاط لنبذ هذا العنف بأسلوبه الخاص، بنظرته الخاصة، وهو سينجح حتماً في بناء الممكن وتحويل المستحيل الى حقيقة قائمة جداً في الواقع... لقد جهدت من خلال هذه الأعمال والتماثيل الناطقة بالوعي الجمالي لرفع الصوت عالياً ، صوت المحبة، صوت السلام، وقبل كل شيء، قالت أعمالي، لا للحروب التي تدمّر الحضارة».
تهتم كاتيا باللون الذي يحول المعنى ويجوهره ويلمعه، ونجحت في إضفاء ألوان جديدة على أعمالها، ألوان تنطق بالسلام الكبير : « استطعت اختراق جوهر اللون لاستخراج اللون ــ الصورة المفتوحة على الدهشة. وإذا كانت ذخيرة الحروب تعكس اللون الناري الحارق القاتل، فإنني دخلت الى عمق هذه الألوان بذهنية صافية تقول بضرورة تغيير هدف ومسيرة هذه الألوان (الوحشية)، وبدلاً من أن تقول إن اللون الناري يحرق، حرفت المشهد وجعلته يضيء ويكشف كوامن الداخل في جوهر الحياة والإنسان.ألوان كثيرة حولتها الى معناها الأصل، معنى الحرية والحب والسلام والجمال».
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024